أحد أعمدة الأدب الأفريقي المعاصر، وصاحب البصمة الأدبية المهمة في الأدب الأفريقي، إنه الأديب الكيني نغوغي وا ثيونغو، الذي عاش الاضطهاد تحت الاستعمار ثم الاستقلال، وساهم في تطوير الأدب بلغته الأم "كيكويو" بدلًا من الإنجليزي، مؤمنًا أن التحرر الحقيقي لا يكتمل دون تحرير العقل واللغة من رواسب الاستعمار، في السطور التالية نلقي الضوء على مسيرته وقصة حياته.
من هو نغوغي وا ثيونغو؟
هو أديب وكاتب وأكاديمي كيني، ولد تحت اسم "جيمس نغوجي"، ولد في 5 يناير عام 1938 في مدينة كاميريثو في كينيا، وهو واحد من أبرز الروائيين والأدباء في شرق أفريقيا، وشخصية بارزة في الأدب الأفريقي الحديث.
ولد نغوغي في فترة مضطربة نتيجة الاستعمار البريطاني لبلاده، وقد تلقى تعليمه في كينيا، ثم واصل دراسته الجامعية في أوغندا، ليكمل دراسته في المملكة المتحدة. بدأت نغوغي مسيرته الأدبية في الستينات، وكان أول كاتب كيني يكتب رواية باللغة الإنجليزية.
استعرض نغوغي وا ثيونغو في روايته الأولى آثار الاستعمار على مجتمع بلاده. واصل بعدها كتابة المزيد من الروايات، وكلها سلطت الضوء على الصراع السياسي وتاريخ المقاومة، والتحولات الاجتماعية.
جاء التحول الجوهري في مسيرته بعد الاستقلال، حينما بدأ بالكتابة بلغة "الكيكويو"، وهي لغته الأم في كينيا، ومنذ ذلك الوقت، قرر نغوغي ألا يكتب إلا بلغته الأم، وهو تحول ثوري، وموقف معارض ضد الاستعمار الثقافي الذي عاشه مجتمعه في ظل الاستعمار.
وبجانب ثورته الثقافية، خاض نغوغي ثورة ضد السلطة في كينيا، وهو ما عرضه للاعتقال، ومن ثم النفي، حيث عاش لعقود بين أوروبا وأمريكا، واستقر في الولايات المتحدة، ودرّس في جامعاتها حتى وفاته.
نشأته وحياته المبكرة في كينيا
ولد نغوغي وا ثيونغو في مدينة كاميريثو وسط كينيا، وكانت تلك المدينة واحدة من المستعمرات البريطانية في شرق أفريقيا، وقد نشأ في أسرة مسيحية. والده كان يملك 4 زوجات، ولديه 28 طفلًا، وكان نغوغي ابنه من زوجته الثالثة.
ولد نغوغي في عائلة من المزارعين الذين تمكنوا من استعادة أرضهم بموجب قانون الأراضي البريطاني عام 1915، ورغم ذلك، عاشت المقاطعة حالة من الاضطراب بسبب انتفاضة السكان الأصليين ضد الاستعمار البريطاني، وهو ما أدى إلى مقتل المئات، وتعرض الآلاف للتعذيب والاضطهاد، وكان أحد إخوته من بين من قُتلوا في هذه الاضطرابات.
درس نغوغي لفترة في مسقط رأسه، ثم انتقل لدراسة المرحلة الثانوية في مدينة أخرى تبعد 20 كيلومترًا عن منزله. عاد نغوغي إلى منزله بعد انتهاء فصله الدراسي الأول، ليقف أمام مشهد مروع، حيث دمر البريطانيون قريته تمامًا، وخسر منزله، هو وكل من سكن هذه القرية.
![نغوغي وا ثيونغو.. صوت أفريقيا المتمرد في وجه الاستعمار]()
دراسته الجامعية
بعد انتهاء الدراسة الثانوية، غادر نغوغي وا ثيونغو كينيا، ودرس في جامعة ماكيريري في أوغندا من عام 1959 حتى 1963، وخلال دراسته هناك، وجد صوته كاكتب، وألف روايته الأولى.
في المهجر، اكتشف نغوغي كينيا، وتعرف على وطنه أكثر وهو بعيد عنها، كما نمى لديه الانتماء للأدب الأفريقي والمسرح. حصل نغوغي على درجة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية عام 1963، ليحصل على منحة دراسية في بريطانيا لدراسة الماجستير في جامعة ليدز.
في إنجلترا، نما لديه الانتماء إلى بلاده ولغته الأم، ونبذ الاستعمار الثقافي ورواسب الاستعمار البريطاني في بلاده، وانعكس ذلك على أعماله الأدبية وروايته التي كتبها في تلك الفترة.
قرر نغوغي بعدها ترك الجامعة دون الحصول على شهادته، وعاد إلى أوغندا، حيث عمل كأستاذ للأدب الإنجليزي في جامعة نيروبي لعدة سنوات.
تغيير أيديولوجيته نحو أفريقيا
بدأ نغوغي وا ثيونغو يميل نحو بلاده ولغته الأم بعد مغادرته كينيا للدراسة في أوغندا، وزادت مشاعره الوطنية أكثر حينما سافر إلى إنجلترا للدراسة. في عام 1967، وبعد كتابة روايته الثانية "حبة قمح" قررر نغوغي تغيير اسمه الذي ولد به وهو جيمس إلى "نغوغي" حيث اعتبر اسم "جيمس" اسمًا استعماريًا لا يعبر عن أفكاره وأيديولوجيته.
بدأ نغوغي كذلك بالكتابة بلغته الأم، وترك الكتابة باللغة الإنجليزية، وغادر إنجلترا، وبدأ مسيرته بالتدريس في جامعة نيروبي في كينيا لمدة 10 سنوات، كما عمل كزميل في الكتابة الإبداعية في جامعة ماكيريري في أوغندا لعدة سنوات.
خلال عمله في جامعة نيروبي، شعر نغوغي بأهمية تدريس الأدب الأفريقي في الجامعة، بما في ذلك الأدب الشفهي، ورأى ضرورة ة إلغاء قسم اللغة الإنجليزية في الجامعة، وقد أدت تلك الجهوة في النهاية إلى إلغاء الجامهة للأدب الأنجليزي كمقرر دراسي، واستبداله بمادة تركز على الأدب الأفريقي الشفهي والمكتوب على حد سواء.
![نغوغي وا ثيونغو.. صوت أفريقيا المتمرد في وجه الاستعمار]()
آرائه السياسية وسنوات الاعتقال
استغل نغوغي وا ثيونغو قلمه لانتقاد السياسة في بلاده، وفي عام 1977 ألف مسرحية "بتلات الدم، الذي انتقد فيها الأحداث السياسية في البلاد، ونتيجة لذلك، قرر الرئيس الكيني آنذاك دانيا أراب موي باعتقاله في سجن كاميتي شديد الحراسة.
ظل نغوغي لمدة عام في السجن دون محاكمة، وخلال تلك الفترة، تعرف على سجناء سياسيين آخرين، واستغل وقت سجنه لكتابة المزيد من المؤلفات، وفي فترة السجن، كتب أول رواية بلغته الأم، وكتبها على ورق الحمام الذي يوزه في السجن.
في فترة السجن، قرر نغوغي الكتابة بلغته الأم، والتخلي عن الكتابة باللغة الإنجليزية، وألهمه السجن لكتابة عدد من المسرحيات والروايات.
أطلق سراح نغوغي عام 1978، ولكنه لم يتمكن من استعادة وظيفته في الجامعة، وتعرضت عائلته لماضيقات كثيرة، لذا اضطر مغادرة بلاده والعيش في المنفى منذ الثمانينات، وحتى وفاته.
حياة نغوغي وا ثيونغو في المنفى
غادر نغوغي وا ثيونغو بلاده كينيا هربًا من الاضطهاد، واستقر في كينيا، وهناك عمل كأستاذًا زائرًا في جامعة بايرويت في ألمانيا، كما درس السينما في معهد دراماتيسكا في السويد.
في الفترة بين 1989 و1992، كان نغوغي أستاذًا زائرًا في جامعة ييل، ثم أصبح أستاذًا للأدب المقارن ودرااست الأداء في جامعة نيويورك، وعمل أستاذَا للغة الإنجليزية والأدب المقارن في جامعة كاليفورنيا.
في عام 2004، عاد نغوغي إلى بلاده لأول مرة بعد سنوات في المنفى ضمن جولة لمدة شهر في شرق إفريقيا، ولكنه تعرض لهجوم على منزله من اللصوص، وتم الاعتداء على زوجته جنسيًا.
عاد نغوغو إلى الولايات المتحدة بعد الحادثة، وتم القبض على مرتكبي الجريمة، والذي اتضح أن أحدهم أحد أبناء أخيه. ظل نغوغي يعيش في الولايات المتحدة حتى وفاته في 2025.
![نغوغي وا ثيونغو.. صوت أفريقيا المتمرد في وجه الاستعمار]()
مؤلفات نغوغي وا ثيونغو
ألف نغوغي وا ثيونغو روايته الأولى عام 1964، وهي رواية "لا تبك يا طفلي" وكانت رواية باللغة الإنجليزية، وكان نغوغي وقتها أول كاتب من شرق أفريقيا يكتب رواية باللغة الإنجليزية.
في روايته الثانية "النهر الفاصل"، والتي روى فيها قصة انفصال قريتين متجاورتين في كينيا بسبب الاختلافات في المعتقدات. في عام 1967، ألف روايته الثالثة "حفنة من القمح، والتي روى فيها مجموعة من الأحداث في ظل فترة الطوارئ خلال نضال كينيا من أجل الاستقلال.
خلال سنوات اعتقاله، ألف مسرحية "بتلات الدم"، والتي اعتقل بسببها، كما ألف أول رواية له بلغته الأم لغة "الكيكويو"، وهي رواية "الشيطان على الصليب"، والتي تناول فيها مجموعة من الموضوعات الاجتماعية والأدبية، وركز على التخديات السياسية في بلده كينيا.
منذ ذلك الوقت، لم يؤلف نغوغي باللغة الإنجليزية، وركز على الكتابة بلغته الأم، إلا أنه اضطر لترجمة رواياته بنفسه إلى الإنجليزية حتى لا تفقد معناها حينما يترجمها مترجمًا آخر.
في روايته "ساخر الغراب" عام 2006، انتقد نغوغي بشدة حكام أفريقيا الجدد، وفي كتابه "تفكيك العقل: سياسة اللغة في الأدب الأفريقي"، أكد أنه لا يوجد تحرير حقيقي بدون تحرير اللغة، وأن النضال الثقافي لا يقل أهمية عن النضال السياسي.
جوائز وتكريمات
نال الكاتب الكيني نغوغي وا ثيونغو على مدار مسيرته الأدبية الحافلة عددًا من الجوائز والأوسمة المرموقة التي تعكس مكانته العالمية وتأثيره العميق في الأدب المعاصر.
في عام 1973، مُنح جائزة لوتس للأدب، التي تُعد من أبرز الجوائز الأدبية في العالم الثالث، تكريمًا لإبداعه المرتبط بقضايا التحرر والهوية الثقافية. وفي عام 2001، حصد جائزة نونينو الدولية للأدب، التي تُمنح للأدباء الذين ساهموا في إثراء الثقافة الإنسانية من خلال أعمالهم الأدبية والفكرية.
كما فاز في عام 2016 بـجائزة بارك كيونغ-ني الكورية، والتي تُمنح للأدب العالمي المتميز، لتُعزز من حضوره الأدبي في القارة الآسيوية. وبعد أربع سنوات، أي في عام 2020، نال جائزة كاتالونيا الدولية، وهي جائزة تكرم الشخصيات التي تُسهم في الدفاع عن القيم الثقافية، والعدالة، وحقوق الإنسان.
وفي عام 2022، تُوّج بجائزة PEN/Nabokov للإنجاز في الأدب العالمي، إضافة إلى ذلك، حظيت روايته "التسعة المثاليون" التي كتبها بلغة الكيكويو، بإشادة نقدية عالمية، إذ تم إدراجها ضمن القائمة الطويلة لجائزة بوكر الدولية لعام 2021، لتصبح أول عمل مكتوب بلغة أفريقية أصلية يصل إلى هذه المرحلة المتقدمة في الجائزة.
أسلوبه الأدبي
من أبرز سمات أسلوب نغوغي وا ثيونغو قراره الكتابة بلغته الأم، الـ"جيكويو"، بدلًا من الإنجليزية، اللغة الاستعمارية. يعتقد نغوغي أن استخدام اللغة المحلية هو شكل من أشكال المقاومة الثقافية والسياسية ضد الاستعمار وتأثيراته المستمرة. يعتبر أن الكتابة بلغته الأم تعيد للقراء الفخر بهويتهم وثقافتهم الأصلية.
أكد نغوغي أن اللغة تحمل معها القيم الثقافية والتاريخية، وكتابة الأدب باللغة المحلية تمثل إعادة إحياء لهذه القيم. ويظهر هذا في أعماله مثل "الشيطان على الصليب"، حيث استخدم الـ"جيكويو" للتعبير عن الصراع الاجتماعي والسياسي في كينيا الحديثة، مما أتاح له الوصول إلى جمهور أوسع في مجتمعه المحلي.
اعتمد نغوغي على الأساليب الأدبية مثل الرمزية والاستعارة لإيصال رسائله المعقدة. تعد الرمزية أداة قوية يستخدمها لتعزيز القضايا المطروحة، كما هو الحال في رواية "حبكة الدم"، حيث ترمز القصة للنضال من أجل الهوية والكرامة في مواجهة القمع.
توظف الاستعارة في أعمال نغوغي لتسليط الضوء على الجوانب المختلفة للتجربة الإنسانية، مما يساعد القراء على فهم أعمق للأحداث والشخصيات. ففي كتاباته، تكون الأشياء البسيطة رموزًا للعالم الأكبر الذي يحتضن القضايا الاجتماعية والسياسية.
أولي نغوغي وا ثيونغو أهمية كبيرة لتعبير عن التجارب الشعبية والهموم اليومية لأبناء بلده. يمثل كتاباته صوت الجماهير التي تسعى للتغيير والعدالة. في روايته "الشيطان على الصليب"، سرد قصة العمال والفلاحين الذين يكافحون ضد القوى المسيطرة، مما يعكس تحديات المجتمع الكيني المعاصر.
حرص نغوغي على تقديم قصص تواصلية تعكس الحياة اليومية للناس العاديين، مشددًا على الأهمية الشخصية لكل فرد في عملية التغيير الاجتماعي. يساعد هذا النهج في تقليص الفجوة بين الأدب والجمهور، مما يجعل أعماله أكثر قوة وتأثيرًا.
![نغوغي وا ثيونغو.. صوت أفريقيا المتمرد في وجه الاستعمار]()
حياته الصحية ووفاته
في عام 1995، عانى نغوغي وا ثيونغو من سرطان البروستاتا، ونجى منه رغم اعتقاد الأطباء أن حالته ميؤوس منها. في عام 2019، خضع لجراحة في القلب، وبدأ يعاني من الفشل الكلوي.
في 28 مايو 2025، توفي الكاتب نغوغي وا ثيونغو عن عمر يناهز 87 عامًا في جورجيا بالولايات المتحدة الأمريكية، وبعد وفاته، تذكر الإعلام جهوده لمكافحة الاستعمار، وأشاد به الكتاب والسياسيين، ومنهم الرئيس الكيني ويليام روتو.