إلزام الطلاب الأجانب بالعمل في الريف.. حل لأزمة نقص الأطباء؟
في ظلّ تفاقم أزمة الكوادر الطبية في ألمانيا، لا سيما في المناطق الريفية التي تعاني من نقص حاد في الأطباء، عاد الجدل إلى الساحة السياسية بعد أن طرح حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي بقيادة المستشارفريدريش ميرتس، فكرة مشروع قانون يلزم الطلاب الأجانب إمّا بالعمل لمدّة لا تقل عن خمس سنوات في المناطق النائية بعد التخرّج، أو بسداد تكاليف دراستهم الجامعية في حال قرّروا مغادرة البلاد مباشرة بعد إنهاء دراستهم.
ورغم اعتبار الحزب للمقترح "حلا عمليا لأزمة مزمنة"، إلا أنّه أثار مخاوف في أوساط الطلبة الأجانب الذين وصفه كثيرون منهم بأنه "تمييز ممنهج" و"انتقاصًا من حرية الاختيار المهني".
فيديو ذات صلة
This browser does not support the video element.
أزمة مستمرة في القطاع الصحي
تُواجه ألمانيا منذ سنوات عجزًا متزايدًا في أعداد الأطباء، في وقت ترتفع فيه الحاجة إلى خدمات الرعاية الصحية، خاصة في ظل تفاقم شيخوخة المجتمع الألماني. ووفق بيانات رسمية، يبلغ عدد الأطباء في البلاد 4,53 طبيبًا لكل ألف شخص، بينما تتسارع وتيرة انخفاض هذا الرقم بفعل تقاعد أعداد كبيرة من الأطباء دون تعويض يُوازي هذا االتراجع.
وتُشير إحصائيات تعود إلى عام 2023 إلى أنّ 41 بالمائة من الأطباء العاملين قد تجاوزوا سنّ الستين، ما ينذر بإغلاق ما بين خمسة آلاف إلى ثمانية آلاف عيادة طبية خلال السنوات المقبلة، نتيجة بلوغ أصحابها سنّ التقاعد، مقابل نقص حاد في عدد من يخلفهم من الأطباء الشباب.
في خضمّ هذه الأزمة البنيوية، شكّل الأطباء الأجانب ممن لم يحصلوا بعد على الجنسية الألمانية، إذ تضاعف عددهم خلال العقد الأخير ليبلغ 63 ألف و763 طبيبًا بحلول نهاية عام 2023، بحسب تقرير نشرته مجموعة "فونكه" الإعلامية استنادًا إلى بيانات غرفة الأطباء الاتحادية.
وينحدر غالبية هؤلاء الأطباء من أوروبا والشرق الأوسط، وهو ما تؤكده الجمعية الطبية الألمانية التي ترى في مساهماتهم عنصرًا حاسمًا في التخفيف من وطأة الأزمة.
حلول تقليدية لم تُحقق غايتها
سعت السلطات الألمانية إلى معالجة هذا الخلل من خلال مسارات متعدّدة، للراغبين في العمل في الأرياف وقدّمت منحًا دراسية مشروطة بالخدمة في المناطق النائية، كما طالب وزير الصحة الألماني السابق كارل لاوترباخ في عام 2023 بزيادة عدد مقاعد كليات الطب بمقدار خمسة آلاف مقعد جديد.
علاوة على ذلك، تبنّت تسع ولايات ألمانية نظام "حصة أطباء الريف"، الذي يخصص ما يصل إلى 10 بالمئة من مقاعد الطب للطلاب الذين يلتزمون بالعمل لعشر سنوات في المناطق التي تفتقر إلى تغطية صحية كافية، حتى لو لم تكن نتائجهم في المرحلة الثانوية تخوّلهم لدراسة الطب.
لكنّ تلك التدابير ظلّت دون أثر ملموس في كبح التدهور المستمر، ما دفع الحزب المسيحي الديمقراطي إلى اقتراح مسار أكثر تشدّدًا، يستهدف هذه المرّة الطلبة الأجانب دون غيرهم.
تفاصيل المشروع المقترح
يقضي مشروع القانون الجديد بفرض التزام قانوني على الطلاب الأجانب الذين ينهون دراستهم في الطب بألمانيا، يخيّرهم بين العمل الإجباري في المناطق الريفية لخمس سنوات، أو دفع تكاليف تعليمهم التي تعتبرها الدولة "استثمارًا عامًّا عالي الجودة".
وأكّد سيب مولر، نائب رئيس الكتلة البرلمانية للاتحاد المسيحي في تصريح لصحيفة "بيلد"، أن "من يدرس في ألمانيا ملزم يردّ الجميل من خلال ممارسة المهنة في المناطق التي تعاني من النقص. ومن لا يرغب، فعليه سداد تكاليف هذا التعليم رفيع المستوى".
أصوات معترضة: "لم نأتِ كي نُجبر"
في المقابل، عبّر عدد من طلاب الطب الأجانب عن امتعاضهم من المشروع، واعتبروه خرقًا لمبدأ المساواة. يقول سهيل، طالب طب إيراني يدرس في جامعة بون لـ DW عربية "إذا دخل هذا النظام حيز التنفيذ، فلن يكون عادلًا. نُعامل في الحياة الجامعية على أساس المساواة، ثم تُفرَض علينا قواعد تميّزنا عن الطلبة المحليين".
وأضاف: "نحن مجبرون على اجتياز ثلاثة (امتحانات دولة) صعبة، ونعمل وندرس دون أي دعم حكومي، فلا نستفيد من برامج مثل (BAföG)، ولا نحصل على مساعدات تعليمية. ومع ذلك يُطلب منا أن نختار بين العمل القسري أو دفع تكاليف الدراسة، وكأننا لم نُقدّم أي جهد ذاتي؟".
دراسة الطب.. امتياز أم استحقاق؟
تستقطب ألمانيا آلاف طلاب الطب سنويًا، بفضل جودة التعليم وانخفاض كلفته مقارنة بدول متقدمة أخرى. ففي حين تصل الرسوم السنوية في دول أوروبية مثل فرنسا وهولندا إلى 16 ألف يورو، تبقى الدراسة في ألمانيا شبه مجانية، خصوصًا في الجامعات الحكومية.
لكنّ صحيفة "بيلد" لفتت إلى أنّ هذا الامتياز يأتي على حساب دافعي الضرائب الألمان، إذ تقدّر تكلفة المقعد الجامعي بنحو 11 ألف يورو سنويًا، فيما تتجاوز تكلفة دراسة الطب 31 ألف يورو. وعلى سبيل المقارنة، يدفع طلاب الطب في الولايات المتحدة ما يصل إلى 60 ألف دولار سنويًا، فيما تصل الرسوم في بريطانيا إلى 67 ألف جنيه إسترليني في بعض الجامعات.
ويرى المدافعون عن المشروع أنه لا يجوز لطلبة أجانب تلقّوا تعليمًا مجانيًا أو مدعومًا على حساب المجتمع الألماني أن يغادروا البلاد فور التخرّج دون أن يقدّموا شيئًا بالمقابل، لا سيما في وقت تتعرض فيه المنظومة الصحية لضغوط غير مسبوقة.
بين الردّ والتقييد: جدل مفتوح
وفيما يصف أنصار المقترح هذا الإجراء بأنه محاولة منطقية لتنظيم العائد من الاستثمار العام في التعليم، يراه معارضوه تقييدًا لحريات الأفراد، وتكريسًا لنموذج من "الخدمة الإلزامية" لا ينسجم مع مبادئ النظام الديمقراطي.
وهكذا، يبقى مصير هذا المشروع معلقًا بين حسابات السياسة وضغط الواقع الصحي، في بلدٍ يسابق الزمن لسدّ فجوات خطيرة في بنيته الطبية، دون المساس بجاذبيته الأكاديمية التي لطالما جعلت منه وجهةً مفضّلة لطلاب الطب من مختلف أنحاء العالم.
الكاتبة: نور عبدالله
تحرير: ع. ج