سوهان..طفلة ليبية تفر من المرض على متن "قارب موت"ووالدتها تكشف تفاصيل الرحلة
سوهان الطفلة ذات الأعوام السبعة، تعاني من التليف الكيسي، وهو اضطراب جيني مزمن يتطلب علاجًا يوميًا ورقابة طبية دقيقة. وبسبب غياب وسائل التشخيص المتقدمة وندرة الأدوية في ليبيا، تؤكد أسرتها أنها استنفدت جميع الخيارات الممكنة قبل أن تضطر إلى اتخاذ قرار عبور البحر بحثًا عن العلاج
إذ وثّقت والدتها تفاصيل الرحلة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مما أثار تفاعلًا واسعًا وسرعان ما تحوّلت القصة إلى قضية رأي عام أثارت الاهتمام داخل ليبيا وخارجها
فيديو ذات صلة
This browser does not support the video element.
وأعادت هذه الواقعة إبراز حجم التدهور الحاد في القطاع الصحي الليبي، حيث أصبح الحصول على الرعاية الطبية الأساسية تحديًا يوميًا، حتى للأطفال الذين يعانون من أمراض مزمنة تهدد حياتهم.
غياب التشخيص
تنحدر سوهان من مدينة زوارة الساحلية، وُلدت بخلل جيني يمنع جسمها من إفراز الإنزيمات اللازمة لهضم الطعام بشكل طبيعي.
يقول الأطباء إن حالتها تتطلب علاجًا دائمًا، لكن الأدوية غير متوفرة في ليبيا، ولا توجد معامل جينية محلية لإجراء الفحوصات الضرورية.
قالت الأم في حديث لـ DW: "قدّمت ملفها أكثر من مرة، لكن الرد كان دائمًا: لا توجد ميزانية”.
وأوضحت أن التحاليل تُجرى في تونس، بينما تُطلب الأدوية من الخارج عبر صيدليات خاصة، مضيفة: "كل شيء كان مكلفًا ومعقّدًا وبعيدًا عن متناولنا… وكنت أرى حالة ابنتي تتدهور أمام عيني”.
واستطردت قائلة.. "لم نغادر لأننا نريد الهجرة، بل لأن المرض لا ينتظر، ولأن المستشفيات هنا لا تملك الدواء، ولا حتى أدوات التشخيص”. وأشارت إلى شعورها بالخذلان من وعود لم تُنفّذ، مقابل احتياجات أساسية لطفلة لا تطالب سوى بحقها في الحياة
في أشهر الصيف، لا تملك سوهان رفاهية الخروج من المنزل، غير قادرة على تحمل حرارة الطقس التي تهدد حياتها. مجرد تعرّق بسيط كان كفيلًا بإدخالها في غيبوبة بسبب الجفاف، كما تروي والدتها.
و كانت تعتمد على حبة دواء بعد كل وجبة، لتعويض إنزيم حيوي يفتقده جسدها، لكن هذه الحبة لم تكن متوفرة في ليبيا رغم محاولات العائلة المتكررة للحصول عليها.
ومع تدهور حالتها الصحيّة وغياب أي بدائل داخل البلاد، لم تجد الأسرة خيارًا سوى ركوب البحر. استقلّوا قاربًا مكتظًا بعائلات ليبية، كثير منها كانت ترافق أطفالًا يعانون من أمراض مزمنة، على أمل الوصول إلى رعاية لم تكن ممكنة في ليبيا.
وفي عرض البحر، تعرّض القارب لإطلاق نار من زورق تابع لخفر السواحل الليبي، لكن ما إن تبيّن أن جميع من على متنه ليبيون، تغيّر التعامل، وسُمح لهم بمواصلة الرحلة باتجاه المياه الإقليمية. ورغم وصول سوهان والعائلات التي كانت برفقتها على متن القارب إلى إيطاليا، لم تنتهِ معاناتها. فهي تقيم حاليًا في مركز إيواء يفتقر للتكيف، ما يفاقم حالتها الصحية المرتبطة بالمرض ذاته.
وتشير والدتها إلى أن التليف الكيسي لا يحتمل الحرارة أو الجفاف إذ أن مجرد نقص بسيط في السوائل قد ينهك جسدها ويدفعها إلى العناية المركزة
قرار حكومي متأخر
و بعد تصاعد الضغط الشعبي أصدرت حكومة الوحدة الوطنية تعليمات بالتكفل بعلاج الطفلة سوهان في إيطاليا، إلا أن الاستجابة بحسب العائلة، لم تتجاوز البيانات الأولية
وعند سؤالها عن تحرك الحكومة قالت الأم لـ DW “تواصلوا معنا فقط في البداية، ثم توقف كل شيء… لم يتصل أي مسؤول، ولم تُتخذ أي خطوة حقيقية بعد ذلك
ولم يتسنّ لفريق DW، رغم محاولات التواصل مع وزارة الصحة الليبية للحصول على توضيح بشأن الإجراءات الموعودة، للحصول على أي رد، إذ رفض المسؤولون في الحكومة التعليق على الموضوع.
وفي المقابل، اعتبر الناشط الحقوقي طارق لملوم أن تدخل السلطات جاء متأخرًا، ولم يكن ليتحقق لولا الضغط الشعبي
وقال خلال مقابلة مع مراسل DW إن هذه الاستجابة "جاءت كرد فعل، وليس من باب المسؤولية المستمرة”
مشيرًا إلى أن "التجارب السابقة أظهرت أن الدعم الحكومي غالبًا ما يتوقف عند أول تغيير سياسي أو إطالة في فترة العلاج. وحذّر من أن ما حدث مع سوهان قد يتحوّل إلى نموذج مقلق لعائلات أخرى تواجه ظروفًا مشابهة، مشيرًا إلى أن إحدى الأسر تواصلت معه فور انتشار القصة، للاستفسار عن تفاصيل الرحلة وإمكانية تكرارها
وأضاف: "بدلًا من تكريم حالة اضطرت لعبور البحر، كان على الدولة أن توفّر العلاج داخل البلاد، لأن هذا النوع من التعاطي يرسل رسائل مقلقة لعائلات يائسة قد تلجأ إلى نفس الطريق".
وحذّر لملوم، في رسالة وجّهها عبر DW، من أن تكرار هذه الخطوة من قبل عائلات أخرى قد يؤدي إلى عواقب مأساوية، مؤكدًا أن اللجوء إلى البحر قد يكون أخطر من المرض القابل للعلاج، وقد تنتهي الرحلة بفقدان المريض ومرافقيه قبل الوصول إلى وجهتهم.
60 حالة مشابهة
ووفقًا لوثائق حصرية حصلت DW علي نسخة منها، قدّمت أكثر من 60 أسرة ليبية ملفات رسمية إلى وزارة الصحة تطالب بعلاج أطفالها المصابين بذات المرض، وتضمنت الوثائق أسماء المرضى وأرقامهم الوطنية، دون أن يصدر عن الوزارة أي رد حتى الآن.
وفي طرابلس، نظّم أولياء أمور مرضى التليف الكيسي وقفة احتجاجية طالبوا خلالها بتوفير الأدوية، وتفعيل مراكز للتشخيص داخل ليبيا، مؤكدين أن غياب هذه الخدمات يهدد حياة مئات الأطفال
وتحاول ليبيا منذ سقوط نظام معمر القذافي عام 2011 تجاوز عقد من الفوضى السياسية والانقسام المؤسساتي، وهو ما انعكس بشكل مباشر على القطاع الصحي فقد أدّى غياب الاستقرار وتداخل السلطات وتعدد الحكومات إلى تفكك المنظومة الصحية، وتوقف مشاريع إصلاح البنية التحتية، وفشل برامج التوريد الدوائي
و تشير بيانات اطّلعت عليها DW إلى أن حجم الإنفاق على قطاع الصحة في ليبيا تجاوز 50 مليار دينار ليبي (حوالي 9.5 مليار يورو) بين عامي 2011 و2025، دون أن ينعكس ذلك في تحسين ملموس على مستوى الخدمات المقدمة للمواطنين.
ففي تقريره السنوي لعام 2023، سجّل ديوان المحاسبة الليبي تجاوزات جسيمة في مصروفات وزارة الصحة التي بلغت 7.1 مليار دينار (نحو 1.35 مليار يورو)، شملت صرف مبالغ دون عقود رسمية، وتوريد تجهيزات غير ضرورية
هذه التجاوزات عكست استمرار غياب الرقابة والحوكمة، وأسهمت في انهيار المنظومة الصحية
كما ساهم تدخل قوى إقليمية وتضارب الأولويات في تهميش ملف الصحة، ليتحوّل إلى أحد ضحايا الصراع السياسي، وسط استعصاء مزمن في الوصول إلى حلول شاملة أو حتى الحد الأدنى من الخدمات الأساسية.
و في ظل هذا الانهيار، يرى رئيس المنظمة الليبية لدعم التبرع بالأعضاء، محمود ابودبوس، أن غياب سجل وطني للمرضى والاعتماد على التبرعات بات يهدد حياة الأطفال المصابين بأمراض مزمنة.
ويضيف في حديث لـ DW أن فقدان الثقة في النظام الصحي دفع بعض العائلات إلى المجازفة بعبور البحر بحثًا عن فرصة للعلاج، في مؤشر خطير على حجم الإخفاق الرسمي في الاستجابة للاحتياجات الصحية الأساسية
ووفق القانون الليبي، تنص المادة 97 الصادرة عام 1989 على حق المواطن في تلقي العلاج في الخارج في حال تعذّر توفيره داخل البلاد
إلا أن هذا النص، بحسب مختصين في القطاع الصحي، نادرًا ما يُطبّق، ويُتاح في الغالب فقط لمن تربطهم علاقات شخصية بمسؤولين، ما يجعل الحصول على العلاج في الخارج مرهونًا بالواسطة بدلًا من معايير الاستحقاق الطبي
أما على المستوى الدولي، فقد صُنّفت ليبيا رسميًا كـ”بلد طارئ من الدرجة الثانية” من قبل منظمة الصحة العالمية في عام 2022، حيث أبرزت هشاشة النظام الصحي، وتراجع خدمات الرعاية الأساسية، وانعدام المساءلة داخل المؤسسات الصحية
ورغم بلوغها بر الأمان، لا تزال الطفلة الليبية سوهان تحمل آثار رحلة لم يكن ينبغي أن تخوضها. فبينما تنتظر أسرتها استكمال إجراءات اللجوء في إيطاليا، يظل العلاج الذي بحثت عنه في عرض البحر شاهداً على واقع صحي عاجز، كان من المفترض أن يحتضنها قبل أن تدفعها الظروف للفرار للمجهول.
أرقام مفزعة لحالات الغرق والاختفاء
كان تقرير صادر عن المنظمة الدولية للهجرة عن حالات الوفاة والاختفاء بين المهاجرين على مدى 10 سنوات، قد أشار العام الماضي إلى أن أكثر من نصف المهاجرين الذين لقوا حتفهم أثناء محاولتهم الهجرة خلال العقد الماضي قضوا في البحر. وأضاف التقرير أن ما يقرب من 60 بالمئة من هؤلاء الأشخاص قضوا بعد حوادث الغرق. ولقي العديد من الأشخاص حتفهم في حوادث غرق جماعية ولم يتم العثور على جثثهم.
وفقا لمشروع "المهاجرين المفقودين" التابع للمنظمة الدولية للهجرة، هناك أكثر من 63 ألف حالة وفاة أو فقدان لمهاجرين في جميع أنحاء العالم منذ عام 2014. ومع ذلك، فإن العدد الحقيقي أعلى بكثير بسبب صعوبة جمع بيانات موثوقة.
وبين الوفيات في البحر قضى أكثر من 27 ألف شخص في المتوسط، وهو الطريق الذي يسلكه العديد من المهاجرين من شمال أفريقيا إلى جنوب أوروبا. وتعذر التعرف على أكثر من ثلثي الأشخاص الذين تم توثيق وفاتهم في إطار مشروع "المهاجرين المفقودين"، وهو وضع مؤلم لعائلات الضحايا حسبما تؤكد المنظمة الدولية للهجرة.