اشتهرت العالمة البريطانية سيسيليا باين بأنها أول من اكتشف أن النجوم تتكون من الهيدروجين والهيليوم، وهو الاكتشاف الذي قوبل بالرفض والتشكيك في البداية وعانت من التحيز الجنسي والعنصرية كونها امرأة، إلا أنه قلب المفاهيم الفلكية السائدة في ذلك الوقت، لتتمكن سيسيليا من كسر الحواجز العلمية والاجتماعية، وتشغل مناصب هامة في جامعات عالمية، وأصبح اكتشافها الثوري أحد الدعائم التي أرست علم الفلك الحديث، في السطور التالية تعرف على مسيرتها العلمية وإنجازاتها.
من هي سيسيليا باين؟
سيسيليا هيلينا باين هي عالمة فلك بريطانية، ولدت في 10 مايو عام 1900 في مدينة ويندوفر في إنجلترا، وتعد واحدة من أهم عالمات الفلك التي اكتشفت مكونات النجوم، وأحدث اكتشافها ثورة في علم الفيزياء الفلكية الحديثة.
التحقت سيسيليا بجامعة كامبريدج، حيث درست الفيزياء والرياضيات، وكانت متفوقة أكاديميًا، إلا أنها عانت من التحيز الجنسي، ولم تحصل على شهادة رسمية من الجامعة، كون أن الجامعة لم تكن تمنح في تلك الفترة شهادات جامعية للنساء.
كرست سيسيليا حياتها لدراسة الفلك، رغم التحيز والرفض والعنصرية التي واجهتها أكاديميًا كونها امرأ، وفي العشرينات، انتقلت إلى الولايات المتحدة، وبدأت أبحاثها بعد انضمامها إلى مرصد هارفارد الفلكي.
في عام 1925، قدمت سيسيليا باين أطروحتها للدكتوراه، واكتشفت في الأطروحة أن النجوم تتكون من الهيدروجين والهيليوم، ورغم ثورية اكتشافها، إلا أنه قوبل بالرفض، بل والسخرية، مما اضطرها إلى مراجعة أبحاثها أكثر من مرة.
وبعد سنوات، اعترف العلماء بصحة نتائجها، لتواصل أبحاثها في مجال الفلك، وقدمت المزيد من الدراسات المهمة حول تطور النجوم، ولاقت أعمالها وأبحاثها استحسانًا واسعًا بين الأوساط العلمي.
حصلت سيسيليا على العديد من الألقاب والجوائز والتكريمات، وظلت تعمل في المجال الأكاديمية والبحثي حتى وفاتها في نهاية السبعينات، لتصبح قصتها مصدر إلهام للعديد من النساء في مجالات العلوم.
نشأتها وتحصيلها الأكاديمي
ولدت العالمة سيسيليا باين في ويندوفر، وهو واحدة بين 3 أطفال، وقد ولدت لعائلة بروسية مثقفة، فقد كان والدها إدوارد محام مشهور في لندن، كما كان مؤرخًا وموسيقيًا.
بدأت باين تعليمها الرسمي في مدرسة خاصة في وندوفر، وفي سن الثانية عشرة، انتقلت العائلة إلى لندن لتسهيل تعليم شقيقها همفري، الذي أصبح فيما بعد عالم آثار، بينما التحقت باين بكلية سانت ماري، ولم تكن دراسة الرياضيات أو العلوم متاحة للنساء في تلك المدرسة.
انتقلت بعدها إلى مدرسة سانت بول للبنات، ودرست الموسيقى، إلا أنها قررت التركيز على العلوم، وحصلت على منحة دراسية للدراسة في كلية نيونهام في جامعة كامبريدج، حيث درست الفيزياء والكيمياء.
بدأ اهتمام باين بعلم الفلك بعد حضورها محاضرة للعالم آرثر إدينجتون الذي شرح رحلته إلى خليجي غينيا لمراقبة النجوم، وكانت تلك المحاضرة مصيرية في حياتها، حيث بسببها تحولت حياتها رأسًا على عقب.
أكملت سيسيليا باين دراستها في جامعة كامبريدج، إلا أنها لم تحصل على درجة علمية من الجامعة، التي لم تكن منح في تلك الفترة شهادة علمية للنساء، وظل الوضع هكذا حتى عام 1948
.
الهجرة إلى الولايات المتحدة
بعد التخرج من الجامعة، أدركت العالمة سيسيليا باين أن خيارها الوحيد في المملكة المتحدة هو أن تصبح معلمة، ولكن لم يكن هذا هدفها، لذا سعت للحصول على منحة دراسية تمكنها الانتقال إلى الولايات المتحدة.
وبالفعل، رشحها عالم الفلك ليزلي كومري إلى هارلو شابلي، مدير مرصد كلية هارفارد، وتمكنت من الانتقال إلى الولايات المتحدة للدراسة في كلية هارفارد عام 1923، لتصبح باين ثاني امرأة تحصل على زمالة جامعة هارفارد بعد عالمة الفلك الأمريكي أديلايد أميس التي حصلت على الزمالة عام 1922.
وفي جامعة هارفارد، بدأت سيسليا أبحاثها، وقد تلقت إشادة كبيرة من زملائها، حيث وصفت بأنها "من أكثر الشخصيات قدرة على تحقيق الأهداف"، حيث نجحت في إقناع شابلي على دراسة الدكتوراه، وتقديم أطروحتها في موضوع علم الفلك.
وبالفعل، في عام 1925، أصبحت سيسيليا باين أول سيدة تحصل على درجة الدكتوراه في علم الفلك من كلية رادكليف بجامعة هارفارد، وكانت أطروحتها بعنوان "الغلاف الجوي النجمي: مساهمة في الدراسة الرصدية لدرجات الحرارة المرتفعة في الطبقات العكسية للنجوم".
أطروحتها للدكتوراه
عندما قدمت عالمة الفلك سيسيليا باين أطروحتها للدكتوراه، توصلت إلى اكتشاف رائد من خلال ربط الفئات الطيفية للنجوم بدقة بدرجات حرارتها المقاسة، واستخدمت خلال تلك التجربة نظرية التأين للفيزيائي الهندي ميجناد ساها.
واكتشفت سيسيليا خلال أبحاثها أن الاختلافات الكبيرة في خطوط الامتصاص بين النجوم لم تكن ناجمة عن تباين في كميات العناصر، بل كانت نتيجة لاختلاف درجات التأين عند درجات حرارة مختلفة.
توصلت إلى أن العناصر مثل السيليكون والكربون ومعادن أخرى ظهرت بنسب مماثلة لتلك الموجودة على الأرض، وهو ما تماشى مع فرضية سائدة أن تكوين النجوم يشبه تكوين الأرض.
ومع ذلك، اكتشفت باين أن الهيليوم، وخاصة الهيدروجين، كانا أكثر وفرة بكثير في النجوم، حيث كان الهيدروجين أكثر انتشارًا بمعدل مليون مرة مقارنة بعناصر أخرى، وقادها هذا الاكتشاف أن الهيدروجين هو العنصر الرئيسي في النجوم، مما يجعله العنصر الأكثر وفرة في الكون.
![سيسيليا باين.. العالمة التي غيرت نظرتنا للنجوم]()
لماذا تم رفض أطروحة سيسيليا باين؟
راجع عالم الفلك الشهير هنري نوريس راسل أطروحة العالمة سيسيليا باين، وخلال ذلك الوقت، انتقد عدم تركيزها أن الشمس تتكون أساسًا من الهيدروجين، وكان حينها متأثرًا بآراء الفيزياء الأمريكي هنري رولاند، الذي أكد أن تكوين الشمس يشبه تكوين الأرض.
في ورقة علمية نشرت عام 1914، أشار راسل إلى أن التشابه بين أطياف الشمس والأرض يعزز فكرة أن العناصر الموجودة في قشرة الأرض هي ذاتها الموجودة في الشمس، مضيفًا أن رفع حرارة قشرة الأرض إلى درجة حرارة الغلاف الشمسي سيؤدي إلى ظهور طيف امتصاص مشابه.
ونتيجة لذلك، وصف راسل استنتاج باين حول الهيمنة المطلقة للهيدروجين بأنه "زائف"، رغم تقديمها جميع الحسابات والنتائج، إلا أن باين تأثرت بانتقادات راسل، واضطرت إلى إعادة تقديم أطروحتها وأضافت ملحوظة بأن استنتاجها "ليس على الأرجح صحيح".
تقدير اكتشافها بعد 40 عامًا
بعد 4 سنوات من تقديم أطروحتها، أدركك العالم راسل أن سيسيليا باين كانت محقة في استنتاجها بأن النجوم تتكون من الهيدروجين والهيليوم، وذلك بعدما أجرى العديد من الأبحاث والدراسات، وأقر بإيجاز بعمل باين واكتشافها، ومع ذلك، نسب الفضل عمومًا إلى راسل في الإنجازات التي توصلت إليها باين قبل 4 سنوات.
وبعد مرور 40 عامًا على نشر أطروحتها، حصلت سيسيليا باين أخيرًا على تقدير مهني من قبل عالم الفلك "أوتو ستروف" الذي وصف عملها بأنها "أروع أطروحة دكتوراه كتبت في علم الفلك".
مسيرتها الأكاديمية
بعد حصولها على درجة الدكتوراه عام 1925، ظلت سيسيليا باين طوال حياتها في جامعة هارفارد، على الرغم من أن الجامعة في البداية رفضت أن تتولى سيدة منصب أستاذة.
لذا، أمضت باين سنواتها الأولى في الجامعة في إجراء الأبحاث، وركزت أعمالها على النجوم عالية السطوح، وسعت إلى فهم بنية مجرة درب التبانة، ثم درست النجوم المتغيرة، وأجرت أكثر من مليون ومئتين وخمسين ألف رصد مع مساعديها.
قامت سيسيليا كذلك بجولات حول العالم، وكانت أول جولة لها عبر أوروبا عام 1933، والتقت فيها بعالم الفلك الروسي سيرجي إيلاريونوفيتش جابوشكين. في عام 1938، حصلت باين أخيرًا على لب "عالم فلك" بمساعدة العالم هارلو شابلي، وضغط على إدارة الجامعة لتحويل منصبها إلى أستاذية صريحة، وبالفعل تمكن من تحقيق ذلك.
![سيسيليا باين.. العالمة التي غيرت نظرتنا للنجوم]()
أول سيدة تترقى إلى أستاذة كاملة في جامعة هارفارد
نعم، أصبحت العالمة سيسيليا باين أول امرأة تتم ترقيتها إلى أستاذة كاملة من داخل هيئة التدريس في كلية الآداب والعلوم بجامعة هارفارد عام 1954، وبعدها بعامين 1956 أصبحت أول امرأة تتم ترقيتها إلى أستاذة كاملة من داخل هيئة التدريس في كلية الآداب والعلوم بجامعة هارفارد.
في عام 1958، تم تعيينها أستاذة لعلم الفلك، ثم تم تعيينها رئيسة لقسم علم الفلك، لتصبح أول امرأة ترأس قسمًا في جامعة هارفارد.
تقاعدت باين من التدريس عام 1966، وتم تعيينها فيما بعد أستاذة فخرية في الجامعة، وواصلت أبحاثها كعضو في هيئة التدريس في مرصد مرصد سميثسونيان للفيزياء الفلكية، بالإضافة إلى تحرير المجلات والكتب التي نشرها مرصد هارفارد لمدة عشر سنوات.
هل كانت سيسيليا باين متزوجة؟
نعم، تزوجت العالمة سيسيليا باين إلى عالم الفيزياء الفلكي الروسي سيرجي إيلاريونوفيتش غابوشكين عام 1934، وقد التقت به أول مرة في جولة أوروبية لها عام 1931 في ألمانيا، وساعدته في الحصول على تأشيرة لدخول الولايات المتحدة.
بعد زواجها، أضافت اسم زوجها إلى اسمها، وأنجبت له 3 أطفال، وهم إدوارد، وكاثرين، وبيتر. كانت باين أم حنونة وخياطة مهارة وقارئة نهمة، وذلك وفقًا لتصريحات ابنتها كاثرين.
عاشت باين مع زوجها في مزرعة في ليكسينغتون، حيث عملا على تربية الخنازير والدواجن وتوصيل اللحوم.
وفاتها
توفيت العالمة سيسليا باين في منزلها في 7 ديسمبر عام 1979 عن عمر 97 عامًا، وقبل وفاتها نشرت سيرتها الذاتية بعنوان "يد الصباغ".
جوائز وتكريمات
حققت سيسيليا باين العديد من الإنجازات والاعترافات العلمية المرموقة خلال مسيرتها الفلكية. بدأت مسيرتها المتميزة مبكرًا، حيث انتُخبت عضوًا في الجمعية الفلكية الملكية عام 1923 عندما كانت لا تزال طالبة في جامعة كامبريدج.
بعدها بأربع سنوات، أُدرج اسمها ضمن قائمة 250 عالمًا في الطبعة الرابعة من كتاب رجال العلوم الأمريكيين عام 192.
وفي عام 1934، حصلت باين على أول جائزة تُمنح في علم الفلك للنساء، وهي جائزة آني جيه كانون، لتصبح بذلك أول من نال هذا التكريم. ولم تتوقف إنجازاتها عند هذا الحد؛ فقد انضمت إلى الجمعية الفلسفية الأمريكية عام 1936، وإلى الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم عام 1943.
كما حصلت على جائزة الاستحقاق من كلية رادكليف عام 1952، وتوّجت مسيرتها بتلقي ميدالية ريتنهاوس من جمعية ريتنهاوس الفلكية في معهد فرانكلين عام 1961. وفي عام 1967، نالت لقب أستاذة فخرية في جامعة هارفارد، لتكون أول امرأة تحصل على هذا المنصب الرفيع.
استمر تكريم باين حتى بعد وفاتها، فقد أُطلق اسمها على الكويكب 2039 باين-جابوشكين الذي اكتُشف عام 1974. وفي عام 1976، ألقت محاضرة هنري نوريس راسل في الجمعية الفلكية الأمريكية، ما يُعد تكريمًا كبيرًا لعلماء الفلك البارزين.
وفي عام 2008، أطلق معهد الفيزياء ميدالية وجائزة سُمّيت باسمها، وهي ميدالية سيسيليا باين-جابوشكين، لتكريم الإنجازات البارزة في الفيزياء الفلكية. وفي عام 2018، أعادت الجمعية الفيزيائية الأمريكية تسمية جائزة أطروحة الدكتوراه في الفيزياء الفلكية لتصبح جائزة سيسيليا باين جابوشكين، تخليدًا لذكراها.
بالإضافة إلى ذلك، أطلق اسمها على أحد تلسكوبات ASAS-SN في جنوب إفريقيا، وكذلك على بركان باين-جابوشكين باتيرا على كوكب الزهرة. وحصلت على درجات فخرية من عدة مؤسسات تعليمية مرموقة، بما في ذلك جامعة روتجرز، وكلية ويلسون، وكلية سميث، وكلية ويسترن، وكلية كولبي، وكلية الطب النسائية في بنسلفانيا.