عبقري عصر النهضة ليوناردو دافينشي

  • بواسطة: بابونج تاريخ النشر: الأحد، 24 نوفمبر 2019 آخر تحديث: الثلاثاء، 17 أغسطس 2021
عبقري عصر النهضة ليوناردو دافينشي

كثيرون هم العلماء والفنانون العظماء الذين مروا على تاريخ البشرية، وتركوا بصمتهم إلى الأبد في ذاكرة العلم أو الفن أو الأدب، إلا أنّ أحداً على مر التاريخ لم يجمع بين مختلف تلك الجوانب الفكرية كما فعل العبقري الإيطالي ليوناردو دافينشي، الذي وصل إلى ذروة ما يمكن أن يصل إليه أي عالم أو مفكر في مختلف المجالات.

ففي الرسم مثلاً؛ لا تزال لوحاته كالموناليزا والعشاء الأخير تعد علامات فارقة صنعت معالم عصر النهضة الأوروبية بشكل عام والإيطالية بشكل خاص، أما في مجال التصميم والاختراع؛ ينسب له تاريخياً أنه أول من وضع مخططاً قابلاً للتنفيذ لاختراعات؛ كالطائرة المروحية والدبابة والغواصة والمظلة.

 

بداية مسيرة العبقري ليوناردو دا فينشي

ولد ليوناردو دي سير بييرو دافينشي (Leonardo di ser Piero da Vinci) في الخامس عشر من شهر نيسان/ أبريل عام 1452 للميلاد في بلدة فينشي (Vinci) التابعة لجمهورية فلورنسا (Florence) الإيطالية التي عاش فيها جزءاً كبيراً من طفولته ومنها جاء اسمه دافينشي، وهو ابن غير شرعي لكل من المحامي سير بييرو (Ser Piero) الذي كان يعمل ككاتب عدل مرموق في فلورنسا وفتاة ريفية تدعى كاترينا (Caterina)، وبعد ولادته أخذه والده ليربيه في فلورنسا، ثم وفي عمر الخامسة، انتقل ليوناردو الصغير إلى منزل العائلة في فينشي للعيش مع عمه وجديه.

على عكس ما قد تتوقعه عزيزي القارئ، لم يتلق ليوناردو في طفولته الكثير من التعليم سوى بعض المبادئ الأساسية في القراءة والكتابة والحساب، بالرغم من ذلك كانت مواهبه الفنية بارزة منذ الصغر، وفي عامه الرابع عشر.

بدأ ليوناردو مسيرته في تعلم الفن على يد أستاذه الفنان المشهور أندريا ديل فيروتشيو (Andrea del Verrochio) في مدينة فلورنسا، والذي علمه فنون الرسم والنحت إضافة إلى النجارة ودباغة الجلد، ورسم أقدم أعماله الفنية الباقية حتى اليوم وهي لوحة مرسومة بقلم الحبر لمنظر طبيعي في وادي آرنو (Arno) رسمها عام 1473.

في عامه العشرين، رقي ليوناردو إلى رتبة فنان معلم في نقابة فناني فلورنسا وأسس ورشة عمله الخاصة، إلا أن ذلك لم يمنعه من الاشتراك مع أستاذه فيروتشيو لخمس سنوات قادمة، ويقال إن ليوناردو ساعد فيروتشيو في رسم لوحته الشهيرة تعميد المسيح (Baptism of Christ) إذ يقال أن ليوناردو رسم جزءاً من خلفية اللوحة.

بالإضافة إلى الملاك الصغير الذي يمسك بعباءة يسوع المسيح، وذكر بعض المؤرخين أن فيروتشيو ذهل بمهارات تلميذه العبقري إلى درجة أنه حرم على نفسه مسك ريشة الرسم مرة أخرى لشدة تواضع مستواه أمام ليو، إلا أن هذه الحكاية غير مؤكدة بشكل موثوق تماماً.

تذكر السجلات القضائية لجمهورية فلورنسا أن ليوناردو قد ألقي القبض عليه إضافة إلى خمسة شبان آخرين بتهمة اللواط التي كانت عقوبتها النفي خارج البلاد في ذلك الزمن، وبالرغم من تبرئة ليوناردو من هذه التهمة إلا أنه ترك المدينة واختفى ذكره من السجلات التاريخية تماماً لمدة عامين.

لوحة تعميد المسيح (Baptism of Christ)

 

أعمال ومشاريع ليوناردو دا فينشي

عام 1478، ترك ليوناردو ورشة فيروتشيو ومنزل والده ويحكى أنه تقرب من عائلة ميديتشي التي كانت تحكم فلورنسا في تلك الفترة، وتم تكليفه بعمل خاص لأول مرة في حياته حين طلب منه رسم لوحة لمصلى كنيسة (Palazzo Vechio)، وطلب منه كهنة فلورنسا أيضاً رسم لوحة للكنيسة، إلا أنه لم يكمل أيّاً من المشروعين السابقين قبل أن يسافر.

وفي عام 1482، طلب حاكم فلورنسا لورنزو دي ميديتشي (Lorenzo de Medici) من دافينشي تصميم قيثارة فضية ليهديها كعربون سلام إلى لودوفيتشو سفورتزا (Ludovico Sforza) الذي كان يحكم ميلانو بصفة وصي عليها.

استغل دافينشي الفرصة وأرسل إلى سفورتزا الذي سيصبح بعد فترة قريبة حاكم ميلانو طالباً منه فرصة للعمل في مدينته، لم يركز ليوناردو في هذه الرسالة على مواهبه الفنية الفذة لأنه كان يعرف اهتمامات سفورتزا وطموحاته العسكرية، لذلك أسهب ضمن رسالته في إظهار إمكاناته كمهندس عسكري رائد، وأرفق الرسالة بمخططات عسكرية منها عربة فرسان مزودة بحواف حادة لاختراق صفوف الخصم في المعركة، ومخطط لقوس كبيرة كالمنجنيق تحتاج إلى فرقة جنود صغيرة للعمل عليها، إضافة إلى مخطط لدبابة تحتاج جنديين لقيادتها.

يبدو أن رسالة دافينشي نجحت إذ أن سفورتزا وافق على استقدامه للعمل في ميلانو ليبقى الفنان والمهندس هناك سبعة عشر عاماً تبلورت خلالها عبقريته وقدراته الفنية والعلمية، فقد آمن دافينشي -مثله مثل العديد من مشاهير عصر النهضة الأوروبية أن العلم والفن وجهان لعملة واحدة لا ينفصل أحدهما عن الآخر، فهما مجالان مرتبطان متداخلان وليسا منفصلين كما ينظر إليهما البعض، لذلك اعتبر أن دراسة العلوم الطبيعية هي الوسيلة المثلى لجعله فناناً أفضل.

فلسفة ليوناردو دافنشي في الرسم

رأى ليوناردو دافينشي أن العينين هما أهم عضو في الجسد والبصر أهم حاسة، لأنها المدخل الرئيسي الذي تأتينا منه المعلومات من العالم، وأكد على إشراك المحاكمة العقلية مع البصر من أجل معرفة ما ننظر إليه، وآمن بفكرة تجميع الملاحظات والمعلومات المستخلصة عن طريق الملاحظة البصرية للوصول إلى فهم أوسع للعالم حولنا.

بالرغم من أن تلك الأفكار قد تبدو بديهية وسطحية في عصرنا هذا إلا أنها كانت ثورية ولم يسبق لأحد التفكير بها في ذلك الزمن الذي كانت تفسيرات الظواهر الطبيعية فيه تعتمد على النصوص الدينية والأفكار الخارقة للطبيعية.

يقول ليوناردو دافينشي في وصف فلسفته في الرسم: "يجب على الرسام الجيد أن يرسم شيئين؛ الشخص الذي يصوره والنوايا الموجودة في روح هذا الفنان، الأولى سهلة لكن الثانية صعبة، ويجب التعبير عنها من خلال تفاصيل كالتعابير وحركة الأطراف"، وحتى يتقن دافينشي هذه التعابير والحركات الصغيرة بشكل جيد.

اتجه إلى دراسة علم التشريح، وعمل على تشريح أجساد بشرية وبعض أجساد الحيوانات خلال ثمانيات القرن الخامس عشر، وتظهر في ملاحظاته رسومات تصور الجنين داخل الرحم، القلب والجهاز الوعائي الدموي، الأعضاء الجنسية إضافة إلى الهيكل العظمي والعضلي، بعض هذه الرسومات لم يسبقه إلى معرفة تفاصيلها أحد في التاريخ.

إضافة إلى اهتماماته التشريحية، عني ليوناردو دافينشي بالعديد من العلوم الطبيعية فدرس علوم النباتات والحيوانات وعلوم الأرض والفيزياء وبخاصة الهيدروليك وفيزياء الطيران، كان يرسم مخططاته ويدون ملاحظاته على قطع صغيرة من الورق ثم يضعها في حزامه، بعد ذلك يضع هذه الأوراق في دفاتر ملاحظات رتبها ضمن أربعة مواضيع رئيسية هي الرسم، العمارة، الطب والتشريح البشري.

ملأ دافينشي العشرات من دفاتر الملاحظات برسوم في غاية الدقة تبين الملاحظات التي التقطتها عينه الخبيرة عن العالم، وكانت أغلب مدوناته تفسيرات نظرية تشرح ظواهراً طبيعية بأدق التفاصيل، إلا أنه نادراً ما سجل في ملاحظاته مخططات أو نماذج قابلة للتطبيق.

لوحة الرجل الفيتروفي

يتجسد تداخل العلم والفن لدى ليوناردو دافينشي بأبهى صوره في لوحة الرجل الفيتروفي (Vitruvian Man) والتي تظهر رجلاً شاباً يبسط جسمه بوضعين مختلفين مبعداً طرفيه العلويين والسفليين عن جسده، وهو محتوى ضمن مربع ودائرة حوله، وكلما نظرنا في آثاره أعمق، نرى إلى أي درجة كان العبقري الإيطالي سابقاً لعصره، إذ رسم مخططات تمثل عمل الدراجة، الطائرة المروحية (وسميت مسمار الهواء)، إضافة إلى آلة طائرة بنى آلية عملها من دراسته لعلم وظائف الأعضاء عند الخفاش.
لوحة الرجل الفيتروفي (Vitruvian Man)

أهم مشاريع دافنشي ولوحاته الفنية

كلف دافينشي بالعمل على عدد من المشاريع الفنية خلال فترة إقامته في ميلانو، لا نستطيع ذكر الجميع بالتفصيل إلا أن بعضاً منها تبرز بتميّزها الجمالي أو ريادتها على العالم في أسلوب ما، ومنها لوحة عذراء الصخور (Virgin of the Rocks) التي بدأ بالعمل عليها عام 1483، وتظهر فيها تقنيتان رادتان في التلوين هما تشياروسكورو (Chiarosuro) أي استخدام ألوان مضيئة ومظلمة بجانب بعضها لإعطاء انطباع بالرسم المجسم ثلاثي الأبعاد، إضافة إلى تقنية سفوماتو (Sfumato) وهي التدرج في الألوان دون حدود واضحة بين جسمين لإضفاء هالة ضبابية على اللوح.

لعل لوحة العشاء الأخير (The Last Supper) أهم لوحات ليوناردو دافينشي من الناحية التاريخية وفي آراء النقاد، وهي تضاهي الموناليزا في الشهرة، كلفه برسمها لودوفيتشو حاكم ميلانو لتوضع في بهو كنيسة سانتا ماريا ديل غراتزي (Santa Maria delle Grazie) في ميلانو، تصور هذه التحفة الفنية الخالدة المشهد الدرامي المشهور الذي يخبر به يسوع المسيح رسله الاثني عشر الذين حضروا للعشاء معه أن أحدهم سيقوم بخيانته وتسليمه للرومان، والمميز في هذه اللوحة هو تصوير تعابير الوجوه ولغة الجسد المتنوعة بين الأشخاص الظاهرين في اللوحة مما يجعل الحياة تدب فيها بشكل مذهل.

 

عودة دافنشي إلى فلورنسا ورسم الموناليزا

لوحة الموناليزا

كلف ليوناردو دافينشي بالعمل على عدد من المشاريع الفنية أثناء فترة بقائه في فلورنسا، من بينها تمثال لوالد الدوق لودوفيتشو سفورتزا ومؤسس أسرة سفورتزا فرانشيسكو سفورتزا (Francesco Sforza)، إلا أن البرونز الذي كان مخصصاً لعمل التمثال استخدم في صناعة مدافع لمقاومة الغزو الفرنسي لميلانو، وحين اجتاحت القوات الفرنسية المدينة هرب دافينشي منها مع أسرة سفورتزا عام 1499، ليبقى فترة في البندقية ثم يعود إلى موطنه فلورنسا.

عمل الفنان على العديد من اللوحات والمخططات أثناء الفترة الثانية من حياته التي قضاها في موطنه فلورنسا، إلا أن أشهرها على الإطلاق هي اللوحة الفنية الخالدة موناليزا (Mona Lisa) التي بدأ بالعمل عليها عام 1503 واستمر حتى عام 1506، ولعل الموناليزا هي أشهر عمل فني في التاريخ الإنساني للعديد من الأسباب أهمها؛ جمالها الغريب وسر ابتسامتها الغامضة.

إضافة إلى هوية صاحبة الصورة التي لا أحد يعرف من هي بشكل مؤكد حتى يومنا هذا، فمنهم من يقول إنها أميرة نابولي إيزابيلا، ومنهم من يقول أنها زوجة تاجر ثري طلب من دافينشي رسم لوحة لها احتفالاً بقرب ولادتها، حتى أن البعض ذهب لافتراض أن الموناليزا هي تخيل دافينشي لشكل أمه في أيام شبابها.

انتقل دافينشي بعد ذلك إلى ميلانو مرة أخرى، ثم إلى روما، ثم تلقى دعوة من الملك الفرنسي فرانسيس الأول لينتقل إلى قصره الخاص في فرنسا، فذهب إلى هناك عام 1517 ليقضى آخر سنتين في حياته ثم توفي في الثاني من أيار/ مايو عام 1519.

في النهاية.. ذهبت العديد من ملاحظات دافينشي ومخططاته وحتى لوحاته طي النسيان، سلبها الزمن والتلف أو لصوص التحف عبر السنوات الطويلة، ولم تحدث في المجتمع العلمي الأثر الذي كان يجب أن تحدثه للعديد من الأسباب، منها أن دافينشي لم يكن يتكلم اللغة اللاتينية التي كانت لغة الأدباء والمفكرين وأبناء طبقة النبلاء؛ لذلك لم يكتب شيئاً من ملاحظاته بها ولم تعرض على الملأ حتى انقضاء سنوات على وفاته.

والسبب الأهم هو مدى تفوقه الخارق على معارف وعلوم القرن الخامس عشر، فقد فكر بأسس المنهج العلمي قبل مئات السنوات من المفكرين الكبار مثل جاليليو جاليلي ورينيه ديكارت، ولم يكن كلامه قابلاً للاستيعاب حتى من قبل أغلب من عاصروه، أما اليوم أصبحنا نعرف أن ليوناردو دافينشي هو من أكثر الأشخاص عبقرية وصاحب أحد أكثر العقول شمولية وكمالاً -إن لم يكن الأكثر على الإطلاق- في تاريخ الإنسانية.

القيادي الآن على واتس آب! تابعونا لكل أخبار الأعمال والرياضة