مهددة بالانقراض.. مبادرات في ألمانيا لدعم لغات محلية بالسودان
في قلب إفريقيا، يقف السودان كأحد أكثر البلدان تنوعاً من الناحيتين اللغوية والثقافية. لا تقتصر ثروته على النيل أو الذهب، بل تمتد إلى أكثر من 70 لغة محلية تنبض بالحياة في القرى والمدن، وتحمل في طياتها قصص الشعوب التي سكنت هذه الأرض منذ آلاف السنين.
من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب، تتحدث المجتمعات السودانية بلغات تعكس هويتها، وتُعبّر عن تراثها، وتربط الأجيال ببعضها البعض. ورغم أن العربية هي اللغة الأكثر شيوعاً، إلا أن اللغات المحلية تظل حاضرة بقوة في الحياة اليومية، في الأغاني، والحكايات، والمناسبات، وحتى في الأسواق.
فيديو ذات صلة
This browser does not support the video element.
هذا التنوع اللغوي ليس مجرد تفاصيل ثقافية، بل هو مرآة لتاريخ طويل من التعدد والتعايش، وثروة إنسانية تستحق أن تُوثّق وتُصان للأجيال القادمة.
تُستخدم في السودان أكثر من 70 لغة محلية تتوزع بين مختلف الأقاليم والمجموعات الثقافية. من بين هذه اللغات، تبرز اللغة النوبية في الشمال، الفوراوية في دارفور، الزغاوة والمساليت في الغرب، والبجاوية في الشرق. كما تنتشر لغات مثل الهوسا التي يتحدث بها أكثر من 6 ملايين شخص، إضافة إلى لغات مثل البرنو، التاما، الفولانية، البرقو، تيما، وتقوي في مناطق متفرقة.
لغة الفور: من الشفاهية إلى التوثيق
أوضح الأستاذ عمر إبراهيم آدم من مطورين منهج اللغة "أن لغة الفور، وهي إحدى اللغات المحلية الرئيسية في إقليم دارفور، شهدت تطوراً ملحوظاً بعد عام 2007، خاصة في مجال التعليم والتوثيق. ففي الفترة ما بين 1997 و2007، كان هناك مركز واحد فقط لتعليم لغة الفور، يقع في منطقة مايو جنوب الخرطوم، يخدم عدداً محدوداً من المهتمين".
لكن بعد 2007، بدأت جهود فردية ومجتمعية في توسيع نطاق تعليم الفور، وتطوير أدوات للكتابة والقراءة بها، باستخدام الحروف اللاتينية والعربية. ونتيجة لهذه المبادرات، أصبح هناك اليوم أكثر من خمسة آلاف شخص حول العالم ممن تعلموا لغة الفور ويجيدون قراءتها وكتابتها، مما يُعد إنجازاً كبيراً في سبيل الحفاظ عليها وتعزيز حضورها في الفضاء الثقافي السوداني والعالمي.
وأضاف الأستاذ عمر أن هذا التطور لم يكن عشوائياً، بل جاء نتيجة وعي متزايد لدى أبناء الفور بأهمية لغتهم، وبدعم من باحثين ومؤسسات دولية مهتمة بالتنوع اللغوي، مما ساهم في تحويل لغة الفور من لغة شفاهية إلى لغة تُدرّس وتُوثّق وتُستخدم في الإعلام والتعليم.
خطر الانقراض يهدد اللغات السودانية
رغم هذا التقدم، يواجه التنوع اللغوي في السودان خطراً حقيقياً، إذ أدت النزاعات والنزوح إلى اندثار لغات مثل البرتي والميما، ويُقدّر أن نحو 90 % من اللغات المحلية في السودان مهددة بالانقراض. هذا التراجع لا يعني فقط فقدان وسيلة تواصل، بل ضياع تراث غني من القصص والمعارف والتقاليد الشفوية التي تشكل جزءًا أصيلاً من الهوية السودانية.
وقد أعدّت اليونسكو أطلساً رقمياً يوثق اللغات المهددة بالاندثار حول العالم، ويُظهر أن نحو 40 % من إجمالي اللغات المحكية في العالم والتي تُقدّر بحوالي 7000 لغة تواجه خطر الاختفاء بدرجات متفاوتة، مما يسلط الضوء على الحاجة الملحة لحمايتها وتوثيقها.
شهد احتفال متعدد الثقافات في ألمانيا حضوراً من جنسيات مختلفة: هندية وإيرانية وألمانية وإيطالية، إلى جانب عدد كبير من السودانيين. وفي حديثها لـ DW عربية، أوضحت جانس زارة أن هذا الحدث يُعد فرصة ثمينة رلتبادل الثقافات والتعرف على اللغات الأصلية، خاصة بالنسبة للقادمين الجدد إلى ألمانيا.
وأضافت أن الاحتفال يوفر مساحة مثالية للتفاعل والتعلم، معتبرة أن مثل هذه الفعاليات تتيح للناس التعرف على رثقافة دارفور والسودان بشكل مباشر، دون الحاجة إلى السفر، مما يسهم في نقل الثقافة السودانية إلى العالم بطريقة حية وتفاعلية.
تخريج أول دفعة من فصل تعليم لغة الفور في ألمانيا
في تصريح خاص لـ DW، قال الأستاذ عبد الناصر، رئيس رابطة الفور في مدينة هانوفر: "نحن الآن في ألمانيا لدينا فصل مخصص لتعليم لغة الفور قراءةً وكتابةً، وهو إنجاز مهم في ظل واقع مؤسف يتمثل في أن الكثير من أبناء الجالية لا يعرفون لغتهم الأم، لأن الآباء والأمهات أنفسهم لا يتقنونها، نتيجة النزوح والعيش في بيئات لا تستخدم هذه اللغة".
وأضاف أن هذا الفصل جاء استجابة لحاجة ملحة داخل المجتمع، حيث فقدت الأجيال الجديدة ارتباطها ربلغتها الأصليةر بسبب الانتقال إلى جامعات ومناطق لا تتحدث بها.
وفي إطار الاحتفال الثقافي الذي أُقيم مؤخراً، تم تخريج أول دفعة من هذا الفصل التعليمي، في خطوة رمزية تعكس بداية جديدة نحو إعادة إحياء لغة الفور بين أبناء الجالية السودانية في ألمانيا، وتعزيز حضورها في المهجر.
وأوضحت الأستاذة إيمان أبو القاسم أن العديد من القبائل السودانية بدأت تسير على نفس الدرب الذي سلكته رابطة الفور، من خلال تطوير لغاتها المحلية وتعزيز التعليم بها، إدراكًا منها لأهمية الحفاظ على الإرث الثقافي واللغوي من الضياع.
وأشارت إلى أن هناك اهتمامًا متزايدًا من الألمان والأجانب بتعلم هذه اللغات، وهو ما يعكس مدى جاذبية هذا التنوع اللغوي والثقافي.
لكنها نبهت إلى أن الحروب والنزاعات التي استمرت لأكثر من عشرين عامًا تسببت في موجات نزوح ولجوء واسعة، أدت إلى فقدان الكثير من الأجيال الجديدة ارتباطها بلغاتها الأصلية، بعد أن ابتعدت عن مجتمعاتها التي كانت تحتضن هذا التراث.
SudaLingua: التكنولوجيا في خدمة التراث اللغوي
في هذا السياق، يأتي مشروع "التمكين الرقمي للغات السودانية غير المدعومة عبر تقنيات الهاتف المحمول والذكاء الاصطناعي"، الذي أطلقه ويقوده الدكتور عامر دين ضمن الجمعية الألمانية الأفريقية لنقل المعرفة والتكنولوجيا (GAAKT e. V.)، كمبادرة رائدة تهدف إلى حماية هذا الإرث اللغوي.
وأشار عامرلـ DW عربية بأنه تم إطلاق النسخة الأولى من تطبيق SudaLingua مع تركيز خاص على لغة الفور في إقليم دارفور، باعتبارها خطوة أولى نحو دعم اللغات السودانية غير الممثلة رقمياً. ويجري العمل حاليًا على توسيع نطاق التطبيق ليشمل مجموعة واسعة من هذه اللغات، موزعة على مختلف الأقاليم السودانية، ومنها:
-
إقليم دارفور: تاما، الزغاوة، المساليت، الداجو، الميدوب
-
جبال النوبة (جنوب كردفان): كواليب، تيرا، مورو
-
النيل الأزرق وشرق الاستوائية: تِمين، ديدينقا، مورلي
-
شرق السودان: البجا (البداويت)
-
شمال السودان: اللغات النوبية مثل الدنقلاوي والكنزي
ومع تزايد الاهتمام المحلي والدولي، فإن الطريق نحوحماية لغات السودان يبدأ بخطوات بسيطة: في فصل دراسي، في تطبيق رقمي، أو في احتفال ثقافي، لكنه ينتهي بإحياء أمة تتكلم بلغتها، وتعتز بهويتها، وتنقل تراثها للأجيال القادمة.
تحرير: خالد سلامة