موفق بكداش وحكاية البوظة الدمشقية

  • تاريخ النشر: الأحد، 20 فبراير 2022 | آخر تحديث: السبت، 24 يونيو 2023
مقالات ذات صلة
صورة وحكاية
كاظم الساهر: بائع البوظة الذي أصبح قيصر الغناء العربي
إلفة الإدلبي.. الكاتبة الدمشقية التي وصلت إلى العالمية

وفاة موفق بن محمد حمدي بكداش أعاد لأذهاننا أشهى بوظة دمشقية التي عمرها 127 عامًا، فلا بد لزائر السوق الحميدية في دمشق أن يتوقف لتناول بوظة بكداش الخشبية التي تعد محطة أساسية لزوار السوق، ومعلمًا تراثيًا من معالم المدينة العريقة.

فيديو ذات صلة

This browser does not support the video element.

تاريخ بوظة بكداش

عند زيارتها تأسرك روح المكان الذي يعود للقرن الـ18 ميلادي، ترى هناك اللوحات التي تحكي حكايات دمشق وأهلها، مع صور لأشهر القادة والملوك والشخصيات المهمة التي حولت المكان إلى معلم من معالم المدينة.

تقف فترى شابًا ماسكًا بيده عصا خشبية ويهوي بها داخل الجرن ليخرج منها قطعة كبيرة من البوظة، وأمامها الحاج موفق بكداش مشرفًا على حسن سير الإنتاج.

بدأت القصة في عام 1895 أي منذ حوالي 127 عامًا حينما قرر الشاب الدمشقي محمد حمدي بكداش -الذي كان يعمل في بيع عصير الليمون البارد- أن يجرب ويصنع مادة غذائية جديدة من السحلب، الذي كان يستخدم مع الحليب فقط، ويشكل منه مادة البوظة العربية أو ما تعرف ب"الإيما".

وبعد نجاح فكرته قرر بكداش أن يفتح محلًا في سوق الحميدية الشهير، واطلع الحكومة العثمانية على فكرته التي دعمته وأرسلت وفدًا حكوميا رفيع المستوى عند افتتاح محله.

ومن خلال هذه البوظة الشهيرة تمكن بكداش أن يأخذ شهرة واسعة ليست فقط في شوارع سوق الحميدية، وإنما في العالم العربي والغربي.

لم تتوقف بوظة بكداش عند هذا الحد، حيث ورث ولدا محمد وموفق بكداش العمل في المحل، واستمرت عائلة بكداش في تحضير البوظة بنفس الطريقة التقليدية حتى جعلت من بوظة بكدشًا معلمًا من معالم دمشق القديمة، وضمن نسيج دمشق الفلكلوري والتراثي.

تمكن محمد بكداش أن ينقل الاكتشاف الذي اكتشفه إلى العالم، ففي عام 1898 أرسل عماله إلى إيطاليا لتعليمهم تصنيع البوظة، وتعليمهم كيفية وضع الإضافات عليها، كالفاكهة ونبات السحلب، وماء الزهر وغيرها.

ومن إيطاليا انتقلت إلى فرنسا وألمانيا وروسيا، وتطورت طرق تصنيعها بعد دخول الكهرباء إلى إيطاليا عام 1910، فاستخدموها في تحضير البوظة.

ولكن حافظ محمد بكداش على الطرق التقليدية واليدوية في التصنيع، واعتمد فقط على البرادات الكهربائية لتخزين البوظة حينما استقدم خبراء فرنسيين لتصنيع أول براد وحافظ للثلج في سوريا وقتها عام 1930.

وحتى الآن لا يوجد في العام العربي من يصنع البوظة اليدوية سوى بوظة بكداش التي فضلت الاحتفاظ بهويتها ومكانتها بين صناع البوظة حول العالم.

شاهد أيضًا: صور سياسيون وأمراء أثناء تناول الأيس كريم

سر صنع بوظة بكداش

اجتهد محمد بكداش أن يكتشف البوظة عبر عدة إضافات، ومنها استخدام نبتة السحلب التي تنبت في قمم الجبال، ولم يستخدمها الدمشقيون قبلًا إلى جانب الحليب الطازج.

فاعتمد على نبتة السحلب كمكون أساسي إلى أن توصل لصنع البوظة بإمكانات وطريقة فريدة، ليعلن عن إبداع سوري بدأ من سوق الحميدية وانتقل إلى العالم كله.

وفورا انتهاء بكداش من صناعة البوظة واجهه  التحدي الأكبر، وهو كيفية المحافظة على برودتها حتى يتمكن من تقديمها صيفًا.

ففكر في الصعود إلى الجبل، وبرفقة العمال توجه إلى أعالي الجبال الشاهقة، وتحديدًا نحو "جبل الشيخ" حيث البرودة التي تناسب منتجه الجديد.

وكان يستأجر المغاور ويرممها ويجهزها، حتى يتمكن من إنزال البوظة الباردة فيها، ويطلب من الفلاحين أن يحشوا هذه المغارات بالثلج، ويغلقوها بالطين.

وحرص على أن تكون المغارات المستأجرة شمالًا حتى لا تصلها الشمس، وفي فصل الصيف يأتي العمال بالبوظبة على ظهر الحمير وينزله الفلاحون داخل تلك المغارات للحفاظ على برودتها.

ولم يتوقف عند هذا الحد، بل فكر في استخدام براميل البارود لتبريد البوظة، حيث اشترى من الجيش براميل خشبية وأعاد تأهيلها، وأدخل بها ترمبات من النحاس تاركًا مسافة بين الخشب والنحاس.

وبعدها يدخل كميات الثلج داخلها ويضع بداخلها البوظة لتبريدها، وظلت هذه الطريقة قائمة حتى دخول الكهرباء دمشق عام 1930، وحينها اعتمد على البرادات الكهربائية.

حيث له الفضل في تصنيع أول محرك تبريدي انتقل من سوريا إلى مصر ثم إلى لبنان وبعدها أرسل إلى إيطاليا، وكانوا يستعملون عددًا من الفيول لتشغيلها، ولا تزال الشركات الإيطالية تحتفظ بتسجيل أول محرط تبريدي سوري الصنع من متاجر بكداش للبوظة.

شاهد أيضًا: الفلفل الأسود أغرب نكهة بوظة في العالم

بوظة بكداش من سوق الحميدية إلى العالمية

كان اكتشاف محمد بكداش للبوظة الدمشقية محل إعجاب الكثيرين، ومع افتتاح المتجر في أواخر القرن الـ18 طالبت العديد من الدول من بكداش بإرسال "صانعي البوظة" لتدريب العمال تصنيع البوظة.

والسبب في ذلك هو زيارة السفراء والأمراء لمحل البوظة  الشهيرة، وتذوقوا لذة المنتج الفريد والوحيد في سوريا، ومنهم سفراء إيطاليا وبريطانيا، وسفير روسيا الاتحادية.

وبالفعل لبى بكداش الطلب وأرسال عدد كبير من العمال إلى تلك الدول، حتى أن كثيرًا منهم ظلوا في تلك البلدان واستقروا فيها وتزوجوا.

أيضًا حضر وفد إيطالي مخصص إلى سوريا طالبًا لإرسال عمال إلى إيطاليا لتعليمهم طريقة تحضير بوظة وحلويات بكداش، وطلبت فرنسا إرسال خبراء صنع البوظة من بكداش وذلك عام 1897.

وأول العمال الذي انطلقوا إلى الخارج من دمشق هم العمال الذي سافروا على إسطنبول وأنقرة في عام 1896 وذلك بناء على طلب الوالي "ناظم باشا"، وهكذا وصلت شهرتها إلى السلطان العثماني "عبد الحميد".

وحينما تذوق السلطان عبد الحميد البوظة الدمشقية أرسل خيولًا وعربات من تركيا لهذا الغرض، وأرسل بكداش حينها 8 عمال توزعوا بين أنقرة وإسطنبول وفتحوا 3 متاجر هناك.

توفي موفق بن محمد حمدي بكداش تاركًا ورائه صنعة أبيه التي حافظ عليها خير حفاظ وأكمل مسيرة والده في تصنيع البوظة اليدوية مبتعدًا عن الطرق الحديثة في تصنيع البوظة، ومحافظًا على تراث شعبي دمشقي قديم انتقل من سوق الحميدية العريق إلى كل دول العالم.