العبقري المنسي نيكولا تيسلا

  • بواسطة: بابونج تاريخ النشر: الأحد، 24 نوفمبر 2019 آخر تحديث: الأربعاء، 24 نوفمبر 2021
العبقري المنسي نيكولا تيسلا

عمل الإنسان منذ فجر الوعي البشري على تسخير قوى الطبيعة الموحشة وعديمة الرحمة للعمل على استغلالها ووضعها تحت سيطرته، وهكذا أصبح الاختراع وسيلة وغاية أساسية في النتاج الحضاري البشري، فهو ما يحمينا من أخطار الطبيعة، ويحول هذه الأخطار في بعض الأحيان إلى موارد مفيدة لمصادر الطاقة.

وهذا بالطبع يحتاج إلى ذكاء ومخيلة واسعة وهي السمات المميزة للعلماء والمخترعين، إذ حاول العالم نيكولا تيسلا الذي سنتعرف على قصة حياته الآن السيطرة على الأنهار والشلالات والصواعق بل وحتى على الكوكب نفسه، وترويضها لتصبح مصادر مجانية للطاقة الكهربائية، إلا أن نمط تفكيره الذي سبق عصره بأشواط، إضافة إلى محاربته من قبل رجال الأعمال ذوي الثروات الضخمة منعاه من الوصول إلى كل ما طمح إليه، فلنبدأ بسرد قصته منذ البداية.

الطفولة والشباب والحلم الأميركي

ولد المخترع نيكولا تيسلا (Nikola Tesla) في العاشر من شهر تموز/ يوليو عام 1856 في المكان الذي أصبح الآن مدعوّاً بـ سميليان (Smiljan) في كرواتيا لأبوين من جنسية صربية وكان له 4 إخوة وأخوات، بدأ ولع نيكولا الصغير بالكهرباء في طفولته بفضل أمه ديوكا مانديتش (Djuka Mandic) التي كانت تملأ وقت فراغها باختراع أدوات كهربائية صغيرة قابلة للاستعمال في المنزل أمام عيني نيكولا المذهولتين.

أما والده ميلوتين تيسلا (Milutin Tesla)، فكان قساً صربيّاً أورثوذوكسيّاً وكاتباً وحاول مراراً ضمه إلى الكنيسة إلا أن نيكولا كان له شغف وحيد شغل وقته واهتمامه هو العلم، فبعد أن درس في معهد (Realschule Karlstadt) في مدينة غراز (Graz) في النمسا، ثم في جامعة براغ خلال السبعينات من القرن التاسع عشر.

انتقل نيكولا تيسلا إلى بودابيست حيث عمل لفترة وجيزة في شركة اتصالات تلفونية، وهناك خطرت له فكرة المحرك التحريضي (Induction Motor) التي حاول جذب المستثمرين للتفكير بها وتزويده بالدعم المالي اللازم لقاء تبني الفكرة، وعندما لم ينجح في ذلك، قرر تيسلا في عمر الثامنة والعشرين ترك أوروبا بالكامل والذهاب إلى أميركا التي كانت معروفة بكونها "أرض الأحلام" و"المكان الذي تتحقق فيه جميع الفرص".

اختراعات تيسلا وخلافه مع إديسون

في عام 1884، وصل نيكولا تيسلا إلى الولايات المتحدة لا يحمل بحوزته سوى بعض الملابس على ظهره، ورسالة تعريفية في يده، كانت تلك الرسالة موجهة إلى رجل الأعمال والمخترع الأميركي العملاق توماس إديسون، والذي غزا سوق البلاد بنظام تمديداته الكهربائية المعتمد على التيار المستمر (DC)، وبحسب كلام الطرفين لم تجر مقابلة العمل بشكل جيّد إلا أن إديسون وافق مع ذلك على توظيف تيسلا في معمله.

طوال عدة أشهر، عمل إديسون وتيسلا جنباً إلى جنب على تحسين الاختراعات التي استثمرت فيها شركة إديسون، وبعد أن لاحظ إديسون موهبة مهندسه الكهربائي العبقري، كلفه بإجراء تحسينات على مولدات الطاقة الكهربائية المعتمدة على التيار المستمر والتي كانت حجر الأساس في جميع اختراعات إديسون، ووعده بمبلغ 50 ألف دولار أميركي إن نجح في المهمة (وهو ما يعادل 1.1 مليون دولار أميركي بالنسبة لاقتصاد اليوم).

خلافه مع أديسون جوهري

بعد أن أكمل تيسلا التعديلات التي كلف بها، طلب من إديسون الوفاء بوعده وتسليمه أجر عمله، إلا أن إديسون أخبره أنه كان يمزح حين أخبره عن المبلغ، وأن تيسلا "لا يفهم حس الفكاهة الأميركي"، وتصاعدت الخلافات مع إديسون إلى درجة اضطر معها تيسلا إلى ترك عمله والبحث عن فرص أخرى، من المؤكد أن الاختلافات بين الرجلين كانت عميقة وجوهرية في شخصية كل منهما.

ففي حين كان تيسلا شاباً خجولًا ذكيّاً يعمل بصمت، كان إديسون رجل أعمال مخضرم مشهور يحرص على الدخول في استثمارات ناجحة، والترويج بشكل تجاري لاختراعات صممها آخرون بشكل غير قابل للبيع.

شركة تيسلا للتنويرات الكهربائية

في عام 1885 وبعد أن ترك العمل لدى إديسون، تلقى تيسلا تمويلاً لإنشاء شركته الخاصة التي دعاها بـ شركة تيسلا للتنويرات الكهربائية (Tesla Electronic Light Company)، وتم تكليفه من قبل المستثمرين بإنشاء نماذج محسنة من المصابيح الكهربائية، وبالرغم من نجاحه في هذه المهمة إلا أنه أجبر على التخلي عن العمل وعمل لفترة كعامل أشغال حرة ليحصل على بعض المال الذي يكفيه للحصول على الطعام والنجاة.

بعد ذلك بدأ حظه بالتحسن عام 1887 حين حصل على اهتمام مستثمرين بنظامه الكهربائي المعتمد على التيار المتناوب (AC) إضافة إلى تمويل لشركته الجديدة (Tesla Electric Company)، وعمل في هذه الفترة بجهد وبلا ملل لاستغلال فرصته الجديدة على أكمل وجه، وحصل على عدة براءات اختراع قبل نهاية العام.

تيسلا وإديسون وحرب التيارات الكهربائية

حصل نظام التيار الكهربائي المتناوب الذي صممه تيسلا على اهتمام المهندس ورجل الأعمال الأميركي جورج ويستنجهاوس (George Westinghouse) الذي كان يبحث عن طريقة فعالة لتزويد مساحات كبيرة بالطاقة الكهربائية، وفي عام 1888 عرض على تيسلا شراء جميع براءات الاختراع التي يملك حقوقها لقاء مبلع 60 ألف دولار أمريكي (جزء منها نقداً والجزء الآخر هو أسهم من مؤسسة ويستينجهاوس Westinhouse Corporation) إيماناً منه بقدرة اختراعات تيسلا على تحقيق هدفه.

وافق تيسلا على هذا العرض ثم بدأ المخترع يعمل على تقنيات وأجهزة معتمداً على التيار المتناوب تحت دعم ويستينجهاوس وتمويله، وهذا ما وضعهما وجهاً إلى وجه من الناحية التجارية ضد توماس إديسون وأنظمته المعتمدة على التيار المستمر.

حرب التيار بين أديسون وتيسلا

في هذه الفترة بدأ ما يعرف بحرب التيار الكهربائية (War of the Currents)، وظهرت حملة إعلامية شرسة بدأها توماس إديسون بسبب نفوذه الكبير وموارده المالية وشهرته التي تتفوق على تيسلا وويستينجهاوس، وبدأ بتصوير تيسلا على أنه أجنبي شرير يريد استغلال المجتمع الأميركي وخداعه بالتيار المتناوب الذي "يسبب طفرات وتشوهات تجعلكم تموتون ببطء وألم" بحسب تعبيره، ونشر أخباراً كاذبة مفادها أن مئات الأشخاص أصيبوا بأمراض تعود أسبابها إلى التيار المتناوب، حتى أن الأمر وصل به إلى إحضار فيل من السيرك وصعقه بتيار كهربائي متناوب كي ينشر الخوف منه في أذهان الأميركيين.

إلا أن التيار المتناوب أفضل من المستمر بكثير من مختلف النواحي، ففي حين سبب التيار المستمر موت العديد من الأطفال وأدى إلى اندلاع حرائق كهربائية في كثير من المنازل، إضافة إلى أن أقصى حد يمكن أن تغطيه مولدات التيار المستمر المتناوب هو حوالي 3 كيلومترات أو أكثر بقليل، مما يعني الحاجة لبناء محطة كهربائية كل ثلاثة كيلومترات وهو أمر سيخلق العديد من التعقيدات والمشاكل والتكاليف المادية.

أما التيار المتناوب فيوفر إضاءة أفضل قادرة على إنارة مصابيح كهربائية بيضاء كبيرة بدلاً من اللون الأصفر الباهت لمصابيح التيار المستمر، إضافة إلى عدم الحاجة لبناء محطات فرعية حتى بعد عشرات الكيلومترات، وفي النهاية انتصر التيار المتناوب رغم حملة إديسون الإعلامية، وحتى اليوم يبقى التيار المتناوب هو الذي يستخدم في المنازل وشتى أنواع المنشآت الأخرى، أما التيار المستمر فيقتصر استعماله على تطبيقات محدودة كبطاريات الهواتف النقالة والحواسيب والسيارات وما إلى ذلك.

شعبية تيسلا تزداد واختراعاته أسست النظام الكهربائي للقرن العشرين

في الفترة التي ركز فيها إديسون على تشويه سمعة تيسلا وتياره المتناوب، عمل تيسلا بمشاركة ويستينجهاوس على تطوير اختراعات جديدة وحصل على أكثر من براءة اختراع أهمها ما يعرف بـ وشيعة تيسلا (Tesla Coil)، التي وضعت الأساس لتكنولوجيا الاتصالات اللاسلكية ولا تزال مستخدمة في أجهزة الراديو حتى اليوم.

لسوء حظ توماس إديسون، تم اختيار شركة ويستينجهاوس لتوفير الإنارة لحدث يوم كولومبوس (World’s Columbian Exposition) المقام في مدينة شيكاجو عام 1893 بمناسبة مرور 400 عام على وصول كريستوف كولومبوس إلى الساحل الأميركي، استغل تيسلا الفرصة وقدم عروضاً لتياره المتناوب وتطبيقاته المختلفة مما ساعده على زيادة شعبيته.

وبعد سنتين عام 1895 صمم واحدة من أولى محطات توليد الطاقة الكهرمائية (Hydroelectric Power Plant) على شلالات نياجرا، واستخدمت المحطة في العام التالي لتزويد مدينة بوفالو في ولاية نيويورك بالطاقة الكهربائية، لاقى الخبر السابق صدى واسعاً وزاد في شعبية تيسلا الذي أثبت نقسه من خلال اختراعاته والتطبيقات العملية والمفيدة للتيار المتناوب الذي أصبح النظام الكهربائي السائد في القرن العشرين وحتى اليوم.

إضافة إلى نظام التيار المتناوب والوشيعة، قام تيسلا خلال مسيرته المهنية باكتشاف وتطبيق وتطوير العديد من الأفكار لاختراعات هامة (بالرغم من أن غيره هم من حصد براءة الاختراع في العديد من الأحيان، ومنها الدينامو (المولدة الكهربائية المشابهة للبطارية في التيار المستمر) والمحرك التحريضي، وكان من رواد اكتشاف الأشعة السينية (X Ray) وتكنولوجيا التحكم عن بعد والرادار.

الأيام السوداء في حياة نيكولا تيسلا والفشل المالي

في عام 1900 وبعد أن أصبح مهووساً بأفكار نقل الطاقة بشكل لاسلكي، أعلن تيسلا عن أكثر أفكاره خطورة وجرأة حتى ذلك الوقت، وهي بناء نظام نقل معلومات عالمي لاسلكي عملاق يعتمد على بناء برج كهربائي كبير من أجل تزويد العالم بالأجمع بالطاقة الكهربائية ونقل الرسائل والمعلومات بسرعة إلى أي مكان.

حصل هذا المشروع على تمويل كبير من عدة مستثمرين، أهمهم العملاق المالي جي بي مورجان (J. P. Morgan)، بدأ بعدها تيسلا ببناء المختبر الذي سيصمم ضمنه الاختراع مزوداً بمولدة طاقة كهربائية وبرج بث عملاق تجريبي، بعد فترة بدأت الشكوك بالتصاعد بين المستثمرين إزاء موثوقية ادعاءات تيسلا التي بدت خارقة.

إضافة إلى القلق المتزايد من منافس تيسلا؛ جوجليلمو ماركوني (Guglielmo Marconi) المدعوم ماليّاً من توماس إديسون والذي حقق نجاحات في مجال الاتصالات اللاسلكية، مما دفع المستثمرين بالتراجع وتيسلا للتخلي عن هذا المشروع عام 1915، بعدها بعامين أعلن تيسلا إفلاسه وتم تفكيك البرج العملاق لبيعه كقطع معدنية وتسديد حزء من الديون.

أواخر حياة العالم تيسلا ووفاته

بعد الإصابة بانهيار عصبي، عاد تيسلا إلى العمل كمستشار علمي للشركات الكهربائية، إلا أن أفكاره أصبحت غير منطقية ومتطرفة يومياً بعد يوم، وصفه من عرفه في سنواته الأخيره بكونه غريب أطوار يقضي معظم حياته مع الحمامات في الحدائق العامة، حتى يقال إنه وقع في حب إحدى تلك الحمامات، وأثار ريبة مكتب التحقيقات الفيدرالي بحديثه عن سلاح دمار شامل كهربائي (Death Beam) أثار فضول الاتحاد السوفييتي خلال الحرب العالمية الثانية.

في السابع من شهر كانون الثاني/ يناير عام 1943، توفي نيكولا تيسلا وحيداً وفاقداً لاتزانه العقلي وغارقاً في الديون، في غرفة أحد الفنادق في مدينة نيويورك التي قضى فيها قرابة ستين عاماً غيّر فيها شكل العالم الذي نعيش به إلى الأبد.

كتبت العديد من الكتب وأنتجت عدة أفلام في ذكرى العالم الراحل تقديراً لفضله وإنجازاته على البشرية، أهمها الفيلم الوثائقي نيكولا تيسلا: العبقري الذي أنار العالم (Nikola Tesla, The Genius Who Lit the World)، وجسد شخصيته الممثل والمغني نجم الروك الشهير الراحل (David Bowie) في فيلم (The Prestige) من إنتاج عام 2006.

هكذا.. نجد أن العبقرية والمخيلة الخصبة الخلّاقة لا تجد دائماً من يقدرها ويعطيها حقها في الحياة، إلا أن العلماء الذين يفنون حياتهم في السعي لفهم قوانين الطبيعة وتسخيرها لخدمة البشرية يرون المعرفة لوحدها وتأثيرها على البشرية بمثابة رد كاف للجميل الذي قدموه.