صورة الفلسطيني في السينما الهوليودية

  • تاريخ النشر: الأربعاء، 15 يونيو 2016
صورة الفلسطيني في السينما الهوليودية
رشا عبدالله سلامة
 
حين يصار للحديث عن صورة الفلسطيني في السينما الهوليودية، فإن الأمر يصبح متشعّباً للغاية، ومرتبطاً إلى حد كبير بغياب الصورة الإيجابية للفلسطيني خصوصاً والعربي عموماً في المحافل العالمية، بالإضافة لهشاشة الإمكانيات التي يمتلكها العربي سينمائياً إذا ما قورنت بإمكانيات السينما الهوليودية المدهشة؛ إذ تتوفر لديهم العناصر الفنية اللازمة كلها من حيث القدرات التمثيلية، البراعة في السينوغرافيا، العقول الإخراجية، والميزانيات الضخمة، والأهم من هذا كله: المنهج السياسي الواضح، الذي يأتي متساوقاً مع المعايير الربحية.
 
تسيطر الصهيونية على السينما الهوليودية، ولعل العودة لجذور الأمر تتطلب ساعات من الحديث المفصل، لكن سأمرّ على بعض النقاط سريعاً، لأن حديثي الأساسي سيكون عن صورة الفلسطيني من خلال أربعة أفلام هوليودية هي "ميونيخ" و"لاتعبث مع زوهان" و"كارلوس" و"ميرال"، ومن خلال هذه النماذج الأربعة ستتشكّل لدى المُستمع صورة الفلسطيني في السينما الهوليودية، تلقائياً.
 
الممثل مارلون براندو على سبيل المثال، كان قد دفع ثمن تصريحه الذي يستنكر من خلاله سيطرة الصهيونية على هوليود. كان هذا في العام 1996، ولم ينفكّ براندو يقدم الأعذار والتبريرات مراراً؛ في محاولة منه لكسر الحصار الذي فرضته هوليود عليه. كذلك الحال مع الممثل غاري أولدمان الذي أعرب عن قناعته بأن هوليود محكومة بيد صهيونية. كلاهما ما يزالان يُنعتان بأعداء الساميّة.
 
ليس براندو وأولدمان وحدهما، بل المخرج أوليفر ستون أيضاً، الذي وصف الصهاينة بالممسكين بمفاصل هوليود الأساسية، وهو ما أدّى لعاصفة هوجاء ضده، تماماً كالتي لقيها كل من الممثل خافيير بارديم والممثلة بينلوب كروز حين وقّعا إبان حرب غزة الأخيرة على عريضة تدين قتل الأطفال الغزيّين.
صورة الفلسطيني في السينما الهوليودية
 
يرفد هذا كله حضور مكثف للرموز اليهودية الدينية في الأفلام، بسبب ومن دون سبب، بل تتعمد الكاميرا التركيز عليها مراراً كالشمعدان والنجمة السداسية والقلنسوة اليهودية، بل في فيلم "فرِد كلوز" على سبيل المثال، والذي يتحدث عن سانتا كلوز وهداياه، وهو شأن مسيحي إذا ما قيس الأمر بالديانة، يسقط سانتا كلوز في مدخنة عائلة يهودية تُكرم وفادته حتى يرحل من جديد لعائلات مسيحية أخرى يوزع على أطفالها الهدايا. 
 
في فيلم يتحدث عن زعماء الصف الأول في الكيان الإسرائيلي اسمه "حرّاس البوابة"، تعطي الممثلة ساندرا بولوك صوتها لشخصية جولدا مائير، فيما يعطي مايكل دوغلاس صوته لشخصية إسحاق رابين، وكريستوفر والتز يعطي صوته لمناحم بيغن وليونارد نيموي لليفي أشكول، وهم جميعاً من نجوم هوليود الذين يُشار إليهم بالبنان، كما أن الشركة التي أنتجت الفيلم وهي أفلام مورياه التابعة لمركز سيمون ويسينتال تجاهر بصهيونيتها ودعمها للكيان الإسرائيلي. وليس حرياً بي ربما إضاعة الوقت الآن في سرد تصريحات نجوم هوليود المشاهير حول الحرب على لبنان في العام 2006، وكان على رأس هؤلاء، الذين نعتوا العرب بالبهائم وبمن يستحقون السحق وبمن يجرّون الويلات على الكون بأسره، كان من بينهم توم كروز وريتشارد غير ونيكول كيدمان وغيرهم.  
 
في حقبة خلت شكلت الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي مادة دسمة لهوليود، ليصار إلى البحث عن عدو آخر عقب انهيار الاتحاد السوفيتي، فكان العالم العربي وكانت فلسطين على وجه التحديد.
 
على صعيد آخر، لم يكن تعامل مدينة السينما العالمية مع القضية الفلسطينية كتعاملها مع قضية الحكم العنصري في جنوب أفريقيا مثلا، والتمييز اللا إنساني الذي كان واقعا على السود، والذي استطاعت هوليود أن تنقله إلى الناس كما هو، بل هي كثّفته في الأعوام الأخيرة، وتحديداً منذ وصول الرئيس باراك أوباما لسدّة الحُكم. 
 
كنت قد ارتدت في دولة البحرين عرضاً لأحد الأفلام المسيئة للعرب عموماً والخليجيين خصوصاً اسمه "كليك"، وإذ بالجمهور الخليجي بدلاّ من متابعة العرض بترقّب وقلق ومن ثم تسجيل احتجاج على إهانة الخليجيين في عُقر دارهم، إذ به يقهقه ضحكاً ويبدأ بالتصفيق والتصفير. كان هذا في سينما في البحرين في العام 2006 على ما أذكر. في العام 2005 شاهدت "ميونيخ"، الذي سأبدأ بالحديث عن صورة الفلسطيني فيه الآن، لأجد أن الجمهور العربي القليل الذي كان موجوداً فضّل الانسحاب منذ الدقائق الأولى لمجرد علمه أن الفيلم يتناول القضية الفلسطينية، فيما لم يبقَ في السينما غيري ووالدي العزيز وبعض المسّنين الأجانب. حال الجمهور العربي أمام هذه الأفلام المسيئة يراوح بين الموقفين اللذين ذكرتهما: إما الاسترسال والاستسهال والقبول بكل هذه الإساءات من دون أدنى تحسس، أو الانسحاب تماماً وترك الميدان فارغاً للعدو الصهيوني كي يشوّه كيفما يريد.
 
البداية مع فيلم "ميونيخ"، ولأجل التنويه للظروف التاريخية التي أحاطت بعملية ميونيخ الفدائية، فإنها كانت ضد الفريق الأولمبي الإسرائيلي المشارك ضمن وفود عالمية في مدينة ميونيخ الألمانية في مطلع السبعينيات. توجّهت مجموعة من الفدائيين الفلسطينيين إلى هناك وقامت باحتجاز الفريق الإسرائيلي كرهائن، ولم تقدم على قتل أحدهم إلا حين حاول النيل من الفدائيين. انتهت عملية الاختطاف، التي كان من شروطها تحرير أسرى فلسطينيين ولفت أنظار العالم للظلم الواقع عليهم، بيد أن الإسرائيليين لم يُنهوا الأمر وأعدّوا قائمة يعترفون بها تماماً في الفيلم الذي أخرجه ستيفن سيلبريج، وهي القائمة التي أشرفت عليها جولدا مائير شخصياً. 
صورة الفلسطيني في السينما الهوليودية
 
المغالطة الإسرائيلية التي تفضح نفسها تتعلق بالشخصيات المستهدفة من قِبلهم. كان تبريرهم سابقاً بأنهم سيستهدفون من خطّطوا للعملية، لكنهم في الواقع، كما في الفيلم، يستهدفون شخصيات بارزة في الشِعر والأدب والترجمة والإعلام، ما يرمز لرغبتهم المحمومة في القضاء على أي صورة إيجابية للفلسطيني، خصوصاً في العواصم العالمية. كان أن استهدفوا وائل زعيتر، الأديب والمترجم الذي كان يقصّ على الجمهور الإيطالي فصلاً من حكاية "ألف ليلة وليلة" بالإيطالية على أحد مقاهي الرصيف هناك. قتلوا ماجد أبو شرار في روما، من خلال وضع متفجرات في فرشة سريره في الفندق، وهو من كان ذاهباً لروما على رأس وفد من أدباء فلسطين ومثقفيها. قتلوا أيضاً محمود الهمشري، الذي كان وزوجته الفرنسية لا يعدمان الحيلة في نقل معاناة الشعب الفلسطيني للمتلقي الفرنسي خصوصاً والأوروبي عموماً، قتلوه من خلال دس المتفجرات في الهاتف، قتلوا الشاعر كمال ناصر في عملية الفردان التي راح ضحيتها أيضاً كمال عدوان وأبو يوسف النجار. كان أن اعترفوا من خلال الفيلم بارتدائهم ملابس نسوة قادمات عبر زورق بحري، ومن ثم خداع نقاط التفتيش الفلسطينية الموجودة في المنطقة ونسف واجهة العمارة ومن ثم اعتلاء الشقق وإفراغ مئات الطلقات في أجساد المناضلين وبعض أفراد عائلاتهم كما زوجة أبو يوسف النجار عدا عن حارس العمارة وبعض السكان والمارّة. في تلك المجزرة ارتقى ستة عشر شهيداً فلسطينياً في ليلة واحدة، وهو أمر أستند فيه لحوارات توثيقية أجريتها مع عائلات الشهداء في كتابي الأخير "إضاءات فلسطينية" ! لم يعرضوا في الفيلم الحقيقة كاملة، بل راحوا يصوّرون القائم على العملية بالمتعاطف مع الأطفال المذعورين في العمارة، ليصوّروه في نهاية الفيلم بمن يعاني أزمة نفسية بسبب ما اقترفه من عمليات تقتيل عشوائية حيال فلسطينيين لا يملك هو نفسه إثباتاً على ضلوعهم بأي نشاط عسكري ضد كيان الاحتلال. هذه الجزئية حرمت المخرج من أي جوائز في ذلك العام؛ لأن مجرد ذكر مسألة كهذه اعتبرت بالنسبة لهم تشكيك في رسالة الكيان السياسية آنذاك !
 
فيلم "ميونيخ" صوّر بأن المجازر الإسرائيلية الآنفة ليست سوى رد فعل على ما يسمونه "إرهاب" فلسطيني مماثل، من غير التطرق بدقة وحيادية للقصة من بدايتها، إذ لم يستعرضوا مشهدا ولو واحدا أو حتى عبارة عن النكبة وما تلا ذلك من نزوح وحصار وتدمير البنية التحتية والمجازر وغير ذلك من خسائر.
 
 تم تصوير الفلسطينيين في "ميونيخ" بجماعة مارقة تتسلل من غير أي ذريعة قانونية أو إنسانية لتتهجم على الفريق الإسرائيلي، مع عرض مشاهد من الأراضي المحتلة الغارقة في الفوضى والفقر والجهل والتي أفرزت "تنظيمات إرهابية" كما يزعمون، مقابل تصوير المجتمع الإسرائيلي بالمدني المتحضر. طيب لماذا لم يمتلك المخرج الجرأة ويقول بأن هذا البون الشاسع بين فلسطين التي يحكمها الفلسطينيون، ولو صورياً، وبين فلسطين التي يقيم عليها كيان الاحتلال مؤسساته وهيئاته أي داخل الخط الأخضر، سببه الاحتلال والعنصرية والتضييق ومحاولة سحق أي بارقة أمل أو تقدم لدى الشعب الفلسطيني؟
الشهيد علي حسن سلامة لم يؤرّق الإسرائيليين في الحياة الواقعية فحسب، بل حتى في السينما؛ إذ اعترف فيلم "ميونيخ" بمحاولات استهدافه مراراً إلى حد تم فيه قتل نادل مغربي يشبهه، ليأتي فيلم "لا تعبث مع زوهان" ويشير لشخصية سلامة، متلاعباً بصفاته وملامحه بطريقة كاريكاتيرية من حيث الشكل وعدد الزوجات والخليلات، الذي يفوق العشرين، واللاتي صوّرهن بالمنقبات في الخارج والمرتديات الملابس الفاضحة في المنزل!
 
 "لا تعبث مع زوهان"، للمخرج دينيس دوغان، كان واحداً من أبرز الأفلام التي كشفت حجم المقت الهوليودي للفلسطينيين والذي لم يتوقف عند حدود التلميح لازدرائه العرب واحتقاره الفلسطينيين، ولا حتى اختار تغليف تلك الإساءات المستفزة، بل راح يستعرض عضلاته في صب أكبر جام من السخرية والتزوير والشتم من خلال كوميديا فجة تجانب أي معايير ذوقية أو موضوعية.
 
وبرغم أنها لم تكن المرة الأولى التي ينتهج فيها الممثل الأميركي اليهودي آدم ساندلر هذا النوع من المهازل الكوميدية، والتي تعد الألفاظ البذيئة والمشاهد الوقحة والمبالغات الحركية من أهم قوامها، إلا أنه اختار في فيلمه هذا جعل الحق الفلسطيني مسرحا ليس لذلك النوع من الكوميديا فحسب، بل للانتحال والكذب والعنصرية، مقابل تصوير قدرات زوهان الخارقة التي تصب في أسطورة المجند الإسرائيلي الذي لا يُقهَر. وصوّر الفيلم مساومات العرب وصفقاتهم، حتى النضالية منها، بالتي تتم على النساء؛ إذ يفاوض سائق التاكسي ذلك الرمز الذي ألمحوا فيه إلى سلامة على إحدى نسائه العشرين! إلى جانب تصوير الفلسطيني بالذي لا يمتلك مقومات نضالية سوى "الجعجعة" والادعاء والكذب والجري وراء الأرباح المادية، إضافة إلى جهله العلمي والحضاري الذي وصمه به وخصوصا عندما ذهب أحدهم لصيدلية كي يشتري مادة متفجرة، فما كان من الصيدلاني بسبب سوء نطق الفلسطيني للإنجليزية إلا أن أعطاه مضادا حيويا.
صورة الفلسطيني في السينما الهوليودية
 
سخر الفيلم بل وكذب فيما يخص ملابس الفلسطينيين، التي صورها بالمهترئة البالية والتي يعتمرون فوقها الكوفية بطريقة تبعث على الضحك، إلى جانب تصويرهم كالهمج عند الفرح وتناول الطعام ورؤية النساء والتحدث بالهاتف وحتى قيادة السيارة واستعمالهم المستمر للألفاظ النابية، إضافة إلى تصوير العرب وخصوصا الخليجيين بمن يرتمون على أقدام المغنيات كماريا كاري، التي يتسابق لغرفتها الرجال العرب لإهدائها والرقص معها.
 
ويظهر الفلسطيني في الفيلم بمن يرغب بالثأر من زوهان لسرقته عنزته، مصورا أن هذا هو الحق اليتيم للفلسطيني مع تشبيه تلك العنزة بأحد المسلمين الملتحين.
 
إلى جانب كل ذلك الكم المهول من الإساءات، كان أيضا انتحال الهوية الفلسطينية وأبرز مكوناتها كالموسيقى التي يطغى عليها الشجن الشرقي، فيما كانت تُلصق موسيقى همجية مزعجة بالفلسطينيين وكذلك التندّر على مواويلهم، إضافة إلى ادّعاء القائمين على الفيلم بأن أكلتيّ الحمص و"بابا غنوج" إسرائيليتان!
 
نأتي الآن لفيلم "كارلوس" الذي يزعم تفنيد ظاهرة المناضل الفنزويلي، الفلسطيني الهوى، ألييتش راميريز سانشيز، المعروف بكارلوس، بموضوعية، فيما هو لم ينتهج سوى التشويه والتناول المنقوص للحقائق. 
زير نساء، كحوليّ، مهووس بالشهرة، يعمل على تلميع اسمه الشخصي ليس إلاّ، يحذو حذو المراهقين السياسيين الذين لا يحلمون بأكثر من قبعة تشي غيفارا وسيجاره، كانت تلك بعض من الصفات السلبية التي تم تصوير كارلوس بها في الفيلم، الذي أخرجه أوليفر أساياس، إلى جانب التعريج على مصطلح "القضية الفلسطينية" بشكل عابر، من دون مصارحة المُشاهِد الغربي بحقيقتها، على الرغم من كونها المبرر الرئيس ومربط الفرس في نضال كارلوس وغيره من الرفاق، ما أدّى لظهوره والشهيد وديع حداد والثوريين العالميين الذين التحقوا بمعسكرات التدريب الفلسطينية بمظهر المرتزقة والعابثين بالأمن العالمي.  
 
جاء الفيلم على درجة مذهلة من حيث "السينوغرافيا"؛ إذ يكاد المُشاهِد يعيش أحداث السبعينيات بحذافيرها، ليس فقط على صعيد الديكورات والأزياء والتسريحات والأغنيات والمطارات وكل هذه العوامل الشكلية فحسب، بل وحتى على صعيد ألوان المَشاهِد التي جعلها المُخرج بألوان العدسات قبل عقود، إلى جانب دمجه المشاهد الوثائقية بالسينمائية بطريقة متمكّنة، وهذه بحد ذاتها نقطة من أبرز النقاط التي تنجح مساعي هوليود دوماً، وتجعل حتى من يخالفونها الرأي سياسياً، ينبهرون تماماً ببراعتها فنياً وسينوغرافياً.
 
فلسطينياً، لم يكن التقصير حيال كارلوس مقتصراً على عدم المطالبة بالإفراج عنه فحسب، بل وكذلك سينمائياً؛ ذلك أنه لم تُحيى قضيته بأي فيلم سينمائي أو حتى وثائقي حتى الآن، في حين فَطِنَ له الغرب، بل هم لم ينسوه إطلاقا؛ إذ ليس هذا الفيلم هو الأول فيما يتعلق بكارلوس. في هذا المقام تحديداً، عليّ التنويه لنقطة أن هوليود معنية دوماً بأي مناضل يحمل صفات الوسامة أو تدور حوله تخمينات تتعلق بالنساء وطابع الدونجوان؛ ولعل هذا ما يفسر الهوَس والإساءات المطوّلة التي نالت من سلامة وكارلوس على وجه التحديد. ثمة صديق، أظن بأنه لا يفضّل ذّكر اسمه، قال لي ذات مرة بحكم انخراطه في الوسط الإعلامي الغربي لفترة ما: هم لا يريدون لهذه الشخصية الوسيمة أن تظهر، حتى لو لم يكن لها ثقل سياسي، هم لا يريدونها أن تظهر للعالم من الأساس. يريدون صورة الفلسطيني المتصبّب عرقاً والذي يخرج من فمه الزبد والبصاق أثناء الحديث. لذا هم يلاحقون أصحاب هذه الطلة وينالون منهم بشتى الوسائل تارة عبر الاغتيال وتارة عبر الاعتقال وتارة عبر التشويه السينمائي. 
صورة الفلسطيني في السينما الهوليودية
 
دوماً هنالك جانب مشرق ولو قليلاً. لكن حتى حين يأتي هذا الجانب المشرق عبر هوليود، عليك التأكد من الرسالة المبطنة، كما في فيلم "ميرال"، الذي مرّر رسالة تطبيعية خطيرة في نهايته حين قال "هذا الفيلم مُهدى لمن لا يزال يؤمن بالسلام من كلا الطرفين"، على الرغم من كونه، ومن باب الإنصاف، كان واحداً من أبرز الأفلام العالمية التي شرّحت الواقع الفلسطيني بجدارة. أحاط "ميرال" بجلّ جوانب القضية الفلسطينية، وإن كانت مدة الفيلم التي لم تتعد 107 دقائق لم تسعفه سوى للمرور على عُجالة على الاجتياحات، والمستوطنات، ونقاط التفتيش والمعابر، وهدم المنازل، والفتك بشبّان الانتفاضة، وعدم وضع الاعتبارات الإنسانية حيال المسنّين والأطفال في الحسبان، والتعذيب في السجون. بيد أن نقطتيّ الفرادة في "ميرال" هما استعراض شخصيات فلسطينية رائدة كالمقدسية هند الحسيني، التي أنشأت دارا للأيتام ومن ثم مدرسة للفتيات بمبادرة شخصية عقب تشرّد أطفال فلسطينيين في أزقة القدس على إثر النكبة، وكذلك المناضلة فاطمة برناوي التي هرّبت جنودا أردنيين من المستشفى الذي كانت تعمل فيه ممرضة لتنضم بعد ذلك لصفوف المقاومة وليُحكَم عليها بثلاثة مؤبدات لزرعها قنبلة في صالة سينما إسرائيلية.
صورة الفلسطيني في السينما الهوليودية
 
نقطة الفرادة الثانية كانت في صورة الفلسطيني التي رسمها المخرج جوليان شنابل على خلاف ما درج عليه صُنّاع السينما العالميين؛ إذ استعرض الطبقة الفلسطينية المترفة قبل النكبة، وتحديدا طبقة العائلات العريقة في القدس، إلى جانب نقله صورة الفلسطيني المتعلم والمثقف والمتحرر، جنبا إلى جنب مع صورة الفلسطيني المنغلق والبائس، وإن كان ساق مبررات لبعض الصور السلبية لدى الفلسطينيين، حين أظهر بأنها نتاج حتمي وتلقائي للتضييق عليهم وتشريدهم واغتصاب حقوقهم منذ ما يزيد على ستة عقود.
 
بينما كنت أشاهد "ميرال"، وبرغم أسفي على الرسالة السلمية المشوّهة التي حاول إقناع المُشاهد بها، تحسّرت وتذكرت المثل القائل "ما حكّ جلدك مثل ظفرك"؛ إذ شنابل هنا حكّ جلد الفلسطينيين ببراعة تفوقهم؛ ذلك أن نظرة واحدة للأفلام العربية التي تناولت القضية الفلسطينية ستكون كفيلة بكشف الفرق الشاسع بين الطرفين، من حيث الإمكانيات، ذكاء الطرح، الشمولية، تحرّي التفاصيل الدقيقة، الحرص على جزئيات مثل الملامح الشكلية واللهجة، تحرّي عوامل السينوغرافيا بنجاح.
 
ما يُلاحظ جليا في فيلم شنابل، شأنه في ذلك شأن أي فيلم عالمي يتناول القضية الفلسطينية أو حتى أي فيلم عربي يرنو للمشاركة في المهرجانات السينمائية العالمية، هو بُعده عن أي مشاهد دموية والاكتفاء فقط بعرض تبعاتها من نواح وعويل وصراخ وعُقد نفسية، هذا إن لم يتم القفز عن الجزئية برمّتها، وهو ما قد يُفسَر بحساسية المَشاهد الدموية لدى المتلقي الغربي، أو ربما لتجنب إثارة حفيظة كيان الاحتلال وأذنابه في لجان التحكيم السينمائية في العالم.
 
خلاصة القول، إن أردت الدقة سأقول بأن الخِرق اتسع على الخارق في القضية الفلسطينية ليس سياسياً فحسب، بل فنياً وإعلامياً أيضاً؛ ذلك أن حظ الفلسطينيين العاثر أوقعهم مع أكثر النوعيات دهاء وتزويراً والأهم الأكثر امتلاكاً للإمكانيات المادية والبشرية وتلك المتعلقة بالنفوذ والسيطرة على مفاصل هامة في العالم بأسره وعلى رأسها الإعلام والسينما، لكن ما من سبيل للحدّ من هذه الآثار المدمرة سوى بالعمل على خلق رواية عربية فلسطينية توازي مستوى قوة الرسالة المضادة التي يصنعها العدو بكفاءة عالية، وكذلك توعية المتلقي العربي بهذه الأخطار والتشويهات الحاصلة، لا لمجافاة السينما الهوليودية والإعلام الغربي، على العكس، بل لأجل البقاء على تيقظ تام حيال الرسائل المسمومة التي تُدسّ في العسل، والتي تنطلي في مرات حتى على المُشاهد الفلسطيني..