«إتش إم إس تشالنجر».. كيف أهدتنا سفينة «خشبية» أعظم اكتشافات عالم البحار!

  • Qallwdallبواسطة: Qallwdall تاريخ النشر: الأربعاء، 03 فبراير 2021 آخر تحديث: الأحد، 31 أكتوبر 2021
«إتش إم إس تشالنجر».. كيف أهدتنا سفينة «خشبية» أعظم اكتشافات عالم البحار!

في تلك الردهة الواسعة للمركز الوطني لعلوم المحيطات، تحديدا في ساوثهامبتون بإنجلترا، يقف ذلك الفارس الشجاع طويل القامة ذو الشارب الكث، رافعا رأسه بشموخ وعيناه محدقتان في الأفق البعيد، مرتديا الخوذة فوق رأسه ويغطي جسده درع معدني فضي اللون.

«إتش إم إس تشالنجر».. كيف أهدتنا سفينة «خشبية» أعظم اكتشافات عالم البحار!

قد يبدو لك التمثال مجرد قطعة خشبية بالية انتصبت يوما فوق مقدمة إحدى السفن، ولكن ما لا تعرفه أنه يمثل القطعة الوحيدة الباقية من سفينة «إتش إم إس تشالنجر»، والتي انطلقت ذات يوم في رحلة بحرية استغرقت 3 سنوات ونصف قصدت من خلالها أقصى بقاع الكرة الأرضية، لتعود إلينا محملة بكم هائل من المعلومات التي أزاحت الستار عن عجائب لا حصر لها تحت سطح الماء، بل وساعدت في صياغة علوم البحار والمحيطات بشكل جديد لا يزال يتخذه العلماء والباحثون مرجعا حتى وقتنا هذا.

إتش إم إس تشالنجر

«إتش إم إس تشالنجر».. كيف أهدتنا سفينة «خشبية» أعظم اكتشافات عالم البحار!

هي سفينة خشبية حربية صنعت خصيصا لتجوب البحار بقوة دفع البخار، وقد شيدت عام 1858 في حوض «ووليتش» لبناء السفن بإنجلترا، ويبلغ طولها حوالي 61 مترا وعرضها 12,29 متر، وتصل سرعتها إلى 19.8 كم/س.

البداية

بدأت قصة السفينة «إتش إم إس تشالنجر» قبل 150 عاما، تحديدا عام 1870 عندما طلب البرفيسور تشارلز طومسون الخبير في علم الكائنات البحرية بجامعة أدنبرة موافقة جمعية لندن الملكية لتقديم الدعم لإقامة رحلة بحرية طويلة الأمد والتي هدفها استكشاف المحيطات حول العالم.

وقد رفضت الفكرة عند طرحها نظرا لأنها لم تكن مألوفة في ذلك الوقت الذي كانت أعماق البحار والمحيطات فيه تشكل لغزا وعائقا كبيرا، ولذا كرر القائمون على الرحلة طلبهم وسعوا جاهدين للحصول على موافقة الحكومة البريطانية، حتى تمت الموافقة على استعارة السفينة «تشالنجر» من الأسطول الملكي، والتي كانت في ذلك الوقت من أقوى وأمتن السفن التي خدمت البحرية لأكثر من 10 سنوات.

الاستعداد للانطلاق

وبالفعل بدأت الاستعدادات للرحلة حيث تم تجميع طاقم العمل الذي تكون من 200 فرد بقيادة الكابتن جورج ناريس الذي كان قائدا لأول سفينة تمر عبر قناة السويس عام 1869، كما انضم إلى طاقم العمل فريق من 6 علماء برئاسة طومسون نفسه، والذين قاموا بإزالة 15 مدفعا من السفينة لتوفير مساحة كافية لإعداد المختبرات وغرف العمل وإنشاء مناطق تخزين العينات البحرية التي سيتم جمعها أثناء الرحلة، والتي تضمنت آلافا من الزجاجات والصناديق الصغيرة المعبأة في خزانات حديدية لحفظ عينات الحشرات والفراشات، كذلك الطحالب والنباتات وما إلى ذلك.

كما كان هناك على سطح السفينة غرفة تصوير فوتوغرافي وغرفة تشريح «وفقا للرسائل التي دونها مساعد المضيف الشاب جوزيف ماتكين والذي كان يبلغ 19 عاما فقط عند انطلاق السفينة».

رحلة الإبحار

بحلول نهاية عام 1872 كانت السفينة «تشالنجر» جاهزة للإبحار حيث بدأت رحلتها 7 ديسمبر من الساحل الجنوبي الشرقي لإنجلترا، متجهة جنوبا نحو جزر الكناري، وسارت السفينة 127,600 كيلومتر على مدار 42 شهرا، غطت فيها ما لا يقل عن 362 محطة على فترات منتظمة، جابت فيها الكثير من الأماكن كجزر الرأس الأخضر ومولبورن، مرورا بهونج كونج ويوكاهاما.

«إتش إم إس تشالنجر».. كيف أهدتنا سفينة «خشبية» أعظم اكتشافات عالم البحار!

وفي مايو 1876 وصلت «تشالنجر» أخيرا إلى المملكة المتحدة بعد رحلة شاقة استغرقت 3 سنوات ونصف، قام خلالها طاقم العمل بأخذ عينات من قاع البحار بشبكات صيد جهزت مسبقا لتحمل الأوزان الثقيلة، بغرض دراسة الحياة البحرية وقياس أعماق المحيطات ودرجات حرارة المياه، والتي قدمت مجموعة هائلة من الدراسات العلمية التي أسهمت بشكل كبير في طبيعة فهمنا لعالم البحار والمحيطات.

عينات من الأعماق

 وقد بلغ عدد العينات المادية التي جمعت خلال الرحلة حوالي 4772 عينة، والتي منحتنا صورة ثرية استثنائية للحياة البحرية حيث تضمنت هذه المجموعة قواقع بحرية من جزر الأزور، وحيوانات حبار من مياه المحيط باليابان، وأسنانا لأسماك قرش مختلفة، وحيوانات سلطعون، وخنازير بحر وأسماكا من فصيلة الأنقليس الثعباني، بجانب بعض الكائنات المتغذية بالترشيح التي استطاعوا الحصول عليها من عمق يصل إلى 550 مترا تحت جزر هاواي.

وتم توزيع هذه العينات على متاحف مختلفة في المملكة المتحدة وأيرلندا والولايات المتحدة، مثل متحف التاريخ الطبيعي في لندن، والتي لا يزال بعضها معروضا للزوار حتى الآن.

«إتش إم إس تشالنجر».. كيف أهدتنا سفينة «خشبية» أعظم اكتشافات عالم البحار!

ومن أبرز الإنجازات التي حققتها مهمة تلك السفينة أن العلماء على متنها استطاعوا الوصول إلى أعمق نقطة على سطح الأرض، الواقعة في غرب المحيط الهادي إلى الشرق من جزر ماريانا الشمالية، والتي تسمى «خندق ماريانا» الغني بالأنواع المتعددة من الطحالب والأسماك، كما أطلق عليه أيضا «تشالنجر ديب» نسبة إلى السفينة، ويبلغ طوله حوالي 2550 وعرضه 70 كيلومترا ويمتد إلى عمق ما يقارب 11 ألف متر وهو ما يفوق ارتفاع قمة جبل إفرست.

قفزة علمية

مثلت هذه الرحلة تطورا هائلا في مجال دراسة المحيطات من خلال القراءات والقياسات العلمية التي حققها العلماء على متن السفينة والتي استعان بها الباحثون حتى وقتنا الحاضر، وقد ألف الكاتب «دوغ ماكدوغل» كتابا بعنوان «رحلة السفينة إتش إم إس تشالنجر، ومولد علم المحيطات الحديث».

كما ذكر الدكتور جيك غِبي الأستاذ المساعد في معهد وودز هول لعلوم المحيطات في الولايات المتحدة، أن القياسات التي تم الحصول عليها خلال مهمة السفينة مهدت الطريق نحو ظهور مختلف فروع علم المحيطات، والتي لا يزال ينتفع بها حتى اليوم في أهم الأبحاث.

تخليد ملكي

ولكن حصيلة الاكتشافات خلال الرحلة كانت أكثر بكثير من أن يخطها كتاب واحد، ولذلك تم كتابة تقرير مكون من 29.500 صفحة، وقسم إلى 50 جزءا فيما بعد، الأمر الذي يعطيك لمحة عن كم المعلومات الهائل الذي جمعه العلماء، ولو أن ذلك التمثال المنتصب أعلى مقدمة السفينة «تشالنجر» يستطيع أن يروي لنا كيف استطاعت الإبحار عبر المحيطين الشمالي والجنوبي حتى وصلت إلى أبعد نقطة من الدائرة القطبية الجنوبية، وكيف صمدت أمام تغيير الفصول وتلاطم الأمواج وثورانها، لعلمنا لماذا استحقت السفينة أن تكون أكثر من مجرد قطعة خشبية.

«إتش إم إس تشالنجر».. كيف أهدتنا سفينة «خشبية» أعظم اكتشافات عالم البحار!

وذلك ما دفع الأسطول الملكي لتخليد اسمها في التاريخ اعترافا وامتنانا بالإنجاز الذي قدمته، حيث إنها لم تقم برحلة بحرية طويلة وحسب، بل أهدتنا أكبر اكتشاف شهده القرنان الـ15 والـ16، والذي اعتبره عالم الطبيعة المشهور جون مري التقدم الأعظم لعالم البحار والمحيطات على ظهر كوكبنا.