بعد قرارات التجميد.. منظمات المجتمع المدني في تونس على المحك

  • DWWbronzeبواسطة: DWW تاريخ النشر: منذ ساعة زمن القراءة: 7 دقائق قراءة
بعد قرارات التجميد.. منظمات المجتمع المدني في تونس على المحك

رغم صدور قرار قضائي بتجميد نشاطها مؤقتا لمدة شهر، إلا أن "الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات"، ظلت تتلقى يوميا إشعارات بتعرض نساء للعنف، وتقطعت السبل بعدد من الضحايا بسبب توقف مراكز الدعم والانصات التابعة للجمعية عن العمل حتى نهاية التجميد.

تنشط الجمعية منذ نحو ثلاثة عقود في مكافحة العنف ضد المرأة، وتعمل أساسا على مرافقة النساء المعنفات عبر تقديم الدعم النفسي والصحي والقانوني لهن، حتى يستعدن حقوقهن.

ولكن الجمعية عرفت أيضا بنضالها السياسي ضد الحكم الاستبدادي ومشاركتها مع باقي منظمات المجتمع المدني المعروفة، في بناء الانتقال الديمقراطي في البلاد بعد عام 2011 قبل أن يأخذ الانتقال منحى آخر مع تولي الرئيس قيس سعيد السلطات بشكل كامل، إبان إعلانه التدابير الاستثنائية في 25 تموز/ يوليو عام 2021.

أوضاع اجتماعية في مهب الريح

ومثل الكثير من منظمات المجتمع المدني أخضعت السلطات القضائية "الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات" للتدقيق المالي والضريبي، بدعوى التأكد من سلامة المعاملات المالية والتمويل الخارجي؛ وهي خطوة يقول عنها نشطاء حقوق الإنسان إنها ذات "صبغة سياسية" وتهدف إلى تقويض العمل الجمعياتي بالأساس بعد اضمحلال دور الأحزاب السياسية والمعارضة.

لكن في الأثناء تقول منسقة من داخل الجمعية لـDW عربية، إن من تبعات القرار القضائي أنه وضع مصير ما يفوق 800 امرأة يتلقين دعما سنويا من الجمعية، أمام المجهول. فضلا عن أنه تسبب في غلق أربعة مراكز إنصات ودعم تنشط في العاصمة وولايات صفاقس وسوسة والقيروان. وتضيف العضوة المنسقة التي فضلت عدم الكشف عن هويتها بسبب قرار التجميد "مباشرة بعد قرار التجميد تلقينا خمسة إشعارات. أعلمنا الضحايا بأننا توقفنا عن تلقي الشكاوى وبدأنا بتوجيههن مباشرة إلى وزارة المرأة والمندوبيات التابعة لها في الجهات".

وفي تقدير أعضاء "المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية" خلال محادثتهم مع DW عربية، فإن التجميد الذي شمل منظمتهم أيضا، يتجاوز التضييق على العمل الجمعياتي والحريات العامة ومحاولات البحث عن ثغرات مالية إلى مساعٍ لإحداث "قطيعة بين النخب والفئات الاجتماعية واحتكار المبادرة من قبل السلطة الشعبوية".

لكن الضرر الأكبر من وراء قرار التجميد في نظرهم، يتعلق بالصعوبات المقيدة للعمل الميداني ومسارات الدعم، لا سيما في المناطق الداخلية الفقيرة، والتواصل مع المستفيدين من المتضررين والفئات الهشة في قضايا البيئة والمياه والصحة والتعليم والهجرة، التي ينشط في فلكها المنتدى. ويقول أحد النشطاء بحماس لـDW عربية "مستمرون في نضالنا ولو بصفة منفردة".

بين التجميد والتخوين

استندت السلطات إلى المرسوم رقم 88 المتعلق بتنظيم الجمعيات الذي صدر بعد ثورة 2011،وهو لا يمنع الجمعيات من تلقي تمويلات وإعانات خارجية لأنشطتها في إطار برامج تعاون وتدريب، بتطبيق عقوبة التجميد لمدة شهر إثر عمليات تدقيق مالية وضريبية بدعوى وجود مخالفات، لم توضح طبيعتها للرأي العام. ويشمل التجميد عدم النشر أو التصريح أو التعليق أو الخوض في الدعوى علنا، إلى حين البت نهائيا فيها.

وفي انتظار ما ستؤول إليه عمليات الطعن الاستعجالية التي تقدمت بها الجمعيات، يقول عدد من النشطاء الأعضاء الذين تحدثت معهم DW عربية، إنهم قدموا كافة الوثائق المطلوبة.

لم تقتصر قرارات السلطات القضائية على الجمعيات ذات الصبغة الاجتماعية ولكنها طالت أيضا جمعيات تنشط في قطاع الإعلام والاستقصاء على غرار الموقع البارز "نواة"، ما ألقى بظلال من الشك على نوايا السلطة تجاه حرية التعبير والآراء النقدية، وسط سوابق متكررة من الاعتقالات لصحفيين ومدونين وسياسيين معارضين صدرت بحقهم أحكام سجن مشددة.

ويوضح رئيس نقابة الصحافيين التونسيين زياد دبار في تعليقه لـDW عربية، أن مثل هذه القرارات لا يمكن فصلها عن السياق الوطني والخطاب الرسمي للدولة الذي يحرض على الجمعيات ويتهمها بالعمالة للخارج.

وبالمقارنة، يرى دبار أنه من المبالغة أن يفضي التركيز على الشكليات الإجرائية البسيطة التي تم اتباعها في عمليات التدقيق، إلى غلق منظمة لمدة شهر كامل. والحال أن "هذه السلطة لا تعير لهذه الشكليات نفسها أي أهمية في سبيل تعطيل العدالة"، في إشارة عمليات الاعتقال الواسعة للنشطاء والمعارضين والصحافيين والمحاكمات السريعة.

هل يجب أن يكون للدولة دور حمائي؟

لكن إذا كانت القوانين لا تمنع استفادة المجتمع المدني من الدعم الأجنبي، فلماذا يتم تحريك القوانين نفسها لتعقب الجمعيات في أنشطة مصرح بها؟ ثم هل يجب أن يقود تنشيط المجتمع بالضرورة إلى استبعاد الدولة ومنعها من أداء وظائفها الرقابية؟

يطرح في هذه النقطة الدكتور صلاح الدين الدريدي، المتخصص في قضايا الإعلام، عدة ملاحظات لمراجعة علاقة الدولة بالمجتمع المدني وارتباط ذلك بالسيادة الوطنية. وينطلق في هذا التعليق من تجربة التمويلات العمومية الأوربية لجمعيات محددة في تونس، في إطار البرنامج الأوروبي لدعم وإسناد قطاع الإعلام التونسي في فترة الانتقال الديمقراطي بعد عام 2011.

وفي تقدير الدريدي، فإن هذا البرنامج مثلا لم يقم على شراكة أو استشارات مع السلطة العمومية في تونس من أجل وضع استراتيجية تدريبية، وهو ما يفتح الباب حسب رأيه، أمام "أهداف قد تتجاوز التكوين والتدريب إلى التدخل في رسم ملامح المشهد الإعلامي عبر اسقاط التجارب والمعرفة الغربية على واقع محلي"، ما يهدد في نظره باختراق السيادة الإعلامية والرقمية.

لكن الدريدي لا ينكر في نفس الوقت حاجة المجتمع المدني في تونس إلى هذه التمويلات العمومية الأوروبية وإلى الخبرات الأجنبية، شريطة أن تكون هناك استراتيجية مشتركة يتم الترتيب لها داخل هيئة أو جهاز يمثل الدولة بجانب الجهات الممولة في إطار تعاون ثنائي أو متعدد الأطراف.

ويقول الخبير التونسي إن "التمويل الأجنبي ليس بالمشكل الهين بالعودة إلى حجم التمويل ذاته وعدد الجمعيات في تونس"، لافتا إلى أهمية الحوكمة المشتركة بين الممول والمستفيد عبر جهات رسمية.

ويستدل في ذلك الدريدي بتجارب غربية مثل فرنسا والمجر ودول أوروبية أخرى أصدرت نصوصا قانونية للتصدي لما يسمى بالتأثيرات الأجنبية من أجل حماية السيادة في مفهومها الموسع، ما يستدعي العودة إلى الدور الحمائي للدولة.

إقصاء الاجسام الوسيطة؟

لكن أبعد من المقارنة، فإن تحليلات عدد من الخبراء تشير إلى انعكاس القرارات القضائية لاستراتيجية رسمية تتبعها سلطة الرئيس قيس سعيد تقوم على إقصاء "الأجسام الوسيطة" في إدارة الشأن العام وليس إلى دور رقابي حيادي، وهي سياسة أفضت بوضوح إلى تلاشي دور الأحزاب السياسية منذ عام 2021 سواء المعارضة وحتى المؤيدة لمسار 25 تموز/يوليو، وانحسار دور الاتحاد العام التونسي للشغل، المنظمة النقابية العريقة، وتقييد أنشطة الجمعيات.

وتخشى المنظمات من أن تؤدي السياسات الحالية تحت حكم الرئيس قيس سعيد، إلى حالة من "التصحر"، أي العودة إلى المربع الأول قبل ثورة 2011 حينما كان حكم الحزب الواحد مهيمنا في تونس.

وفي لقاء سابق مع DW عربية، لفت هشام السنوسي العضو السابق في "الهيئة العليا للاتصال السمعي والبصري" التي حلتها السلطة عام 2024، في تحليله إلى أن مقاربة الرئيس قيس سعيد لـ"الأجسام الوسيطة" مثل المجتمع المدني والأحزاب، تنسف فكرة الديمقراطية التشاركية وتؤدي بالضرورة إلى نوع من التسلط.

بطالة قسرية

بغض النظر عن الدواعي السياسية لتعامل القضاء والسلطة مع المجتمع المدني، فإنه من المتوقع أن تكون لقرارات التجميد، إذا ما تكررت، بجانب مخاطر التضييق والغلق للجمعيات، تداعيات اقتصادية واجتماعية بالضرورة.

فوفق إحصاءات مستقلة جمعتها منصة "انكفاضة" المتخصصة في التحقيقات الاستقصائية، يوفر النسيج الجمعياتي ما بين 70 ألف و100 ألف فرصة عمل، ناهيك عن الوظائف غير المباشرة. وتساهم كل هذه الوظائف في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تتراوح بين 3 بالمئة و5 بالمئة، وفقا لتقديرات تقريبية.

وبالنتيجة يمكن أن تحيل قرارات التجميد عددا كبيرا من المستفيدين من فرص عمل داخل المجتمع المدني إلى بطالة قسرية، في بلد يعاني من نسبة بطالة عامة تفوق 15 بالمئة على المستوى الوطني وحوالي 25 بالمئة في صفوف حاملي الشهادات العليا، وأكثر من 36 بالمئة في صفوف الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 عاما و24 عاما.

ويأمل الآن العاملون في "المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية" و"الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات" وموقع "نواة" الجمعياتي وغيرها من المنظمات، في تخطي الأزمة الراهنة والعودة إلى نشاطها في أقرب وقت.

تحرير: عارف جابو

القيادي الآن على واتس آب! تابعونا لكل أخبار الأعمال والرياضة