الشاعر المصري الراحل أحمد فؤاد نجم

  • بواسطة: بابونج تاريخ النشر: الأحد، 24 نوفمبر 2019 آخر تحديث: الإثنين، 01 نوفمبر 2021
الشاعر المصري الراحل أحمد فؤاد نجم

يتمسك الناس بالكلمة التي تعبر عنهم، وينظرون إلى الشاعر الشجاع كبطل شعبي، يقول ما في خواطرهم، فيحفظون كلماته ويرددونها، إلى أن تصبح من تراثهم، وهذا هو حال الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم، الذي كتب بالعامية المصرية مجموعة من أروع القصائد السياسية؛ فمن هو شاعر الثورة ونصير الفقراء؟

كانت أمي تلقبنا (فضلة الموت) بعد أن نجونا من بين سبعة عشرة ولادة

ولد أحمد فؤاد نجم في الثالث والعشرين من أيار/مايو عام 1923 في محافظة الشرقية المصرية في كفر أبو نجم، كانت أمه فلاحة لا تجيد القراءة أو الكتابة، اسمها هانم مرسي نجم، وهي ابنة عم أبيه، أما والده محمد عزت نجم كان يعمل في سلك الشرطة، وقد أسماه أحمد فؤاد تيمناً بملك مصر آن ذاك، كما كان أحمد واحداً من سبعة عشرة طفلاً لم ينجو منهم إلا ستة فقط، لقبتهم أمهم بـ (فضلة الموت).

لم تكن طفولة نجم طفولةً سعيدة، حيث عاش في الريف المصري بمشاكله الكثيرة، فتلقى تعليمه الأولي في الكتّاب، ثم انتقل إلى منطقة الزقازيق الشعبية بعد وفاة والده، كما دخل إلى ميتم هناك، حيث تعرف إلى المطرب عبد الحليم حافظ، ثم خرج أحمد فؤاد نجم من الميتم عام 1945؛ فعمل في إحدى المزارع الملكية، لكنه طرد من وظيفته بعد فترة قصيرة، ثم بدأ بالعمل في معسكرات الإنجليز ليتمكن من تأمين قوت يومه، حاله حال الكثير من الشباب المصريين آن ذاك، وتنقل بين عدة أعمال، من بينها أعمال البناء والإنشاءات، إضافة إلى عمله في كي الثياب، إلا أنه ترك العمل مع آلاف العمال المصرين احتجاجاً على الاحتلال، وتلبية لنداء حكومة الوفد عام 1951.

نشر أول ديوان له عندما كان سجيناً

بعد أن شارك نجم في الإضراب عن العمل مع الإنجليز، تم توظيفه في أحد فروع السكك الحديدة، لكن الأجر الذي حصل عليه لم يكن يكفيه، خاصة وأنه بدأ يفكر بالزواج، فقام بالاشتراك مع أحد زملائه بتزوير بعض المستندات وتقاضي الأموال بأسماء وهمية من مصلحة السكك الحديدية، إلى أن تم اكتشاف أمره وإلقاء القبض عليه بتهمة التزوير واختلاس الأموال العامة، كما حكم عليه بالسجن لمدة ثلاثة سنوات.

من السجن كانت انطلاقته الشعرية، ولم يكن نجم قد انتهج النهج الثوري، كما لم يكتب في السياسة كلمة واحدة في تلك الفترة، إنما كان يكتب القصائد الرومانسية، إضافة إلى قصائد المديح والنفاق التي رفعها لمأمور السجن وللمسؤولين عنه في زنزانته طمعاً باتقاء شرورهم، وبعض القصائد الوطنية، لكن القائمين على السجن كانوا يتفاخرون بقصائده، كما ساعدوه على نشر أول ديوان له تحت عنوان (صور من الحياة والسجن) عام 1961 قبل انتهاء فترة العقوبة، حيث تم الإفراج عنه في وقت لاحق من العام 1962.

وجد الشاعر الصعلوك في الشيخ إمام رفيق دربه

بعد خروج نجم من السجن، استأجر غرفة على السطح في حي بولاق الدكرور الشعبي، ثم قام بزيارة مع أحد أصدقائه إلى حي حوش آدم (خوش قدم بالفارسية تعني قدم الخير)، وهناك تعرف إلى الشيخ إمام عيسى، وهو مغني ضرير من مواليد الثاني من تموز/يوليو عام 1918، بدأ حياته كمنشد ديني ومقرئ للقرآن الكريم، ثم عمل في الموسيقى مع الشيخ زكريا أحمد.

انتقل نجم للسكن مع الشيخ إمام، كما بدأت جولاتهما الغنائية في الأعراس والحفلات الشعبية؛ فوجد الشاعر الصعلوك في الشيخ إمام رفيق دربه، لكن المشروع الكبير لم يبدأ بعد، حيث لم يكن نجم يفكر في السياسة، بل كان غارقاً في الاحتفالات وكتابة القصائد العادية، إلى أن جاءت هزيمة حزيران/يونيو عام1967، فخلقت نهجاً مختلفاً للثنائي نجم وإمام، جعل منهما العلامة الأبرز في الأغنية السياسية العربية.

غيرت الهزيمة معنى الشعر ووظيفته لدى أحمد فؤاد نجم

كتب أحمد فؤاد نجم بمواضيع مختلفة، فكان يحول كل ما حوله لزجل وشعر، لكنه لم يضع نفسه في مواجهة الحكومة والنظام الحاكم قبل حرب الخامس من حزيران/يونيو عام 1967، تلك الهزيمةبأكمله، حيث منيت الشعوب العربية باليأس والخيبة، فغيرت الهزيمة الكثير من المفاهيم، كما كان لها التأثير الأكبر على نهج أحمد فؤاد التي هزت العالم العربي نجم الشعري.

كتب نجم قصيدته السياسية الأولى على خلفية هزيمة الخامس من حزيران/يونيو، ثم لحنها الشيخ إمام وغناها:

"ح تقولي سينا وما سيناشي... ما تدوشناشي

يا ستميت أوتوبيس ماشي ساحبين انفار

 ايه يعني لما يموت مليون، أو كل الكون

 العمر أصلاً مش مضمون والناس أعمار

ايه يعني شعب بليل ذله ضايع كله

دا كفاية بس أما تقوله إحنا الثوار !

ايه يعني في العقبة جرينا، ولا في سينا؟

 هي الهزيمة تنسينا إننا أحرار"

تلك القصيدة كانت منعطف في حياة نجم وإمام، حيث انتقل الشاعر وهو في منتصف الثلاثين من شاعر متصعلك ينتقل بين حفلات الطهور والأعراس، إلى صوت غاضب ساخط، فتحول بيت الشيخ إمام المتواضع جداً إلى مكانٍ تقصده النخبة المثقفة والطلاب والفنانين؛ ليستمعوا إلى غناء إمام وأشعار نجم، بدأت الصحف تكتب عن الثنائي الاستثنائي، والإذاعة تبث أغانيهما، كما استقبلهم التلفزيون مرات عدة، حيث طلبت إدارته من نجم تجنب بعض القصائد، فكان يوافق، ثم يبدأ بتلك القصائد المحظورة.

دخل السجن أول مرة نصاباً ثم عاد إليه بطلاً شعبياً!

أخذت ظاهرة نجم/إمام تتمدد، وأصبحت الأغنيات الناقدة الساخرة نشيداً لشعب تسكنه خيبة النكسة، إلى أن وصلت أخبار هذه الظاهرة إلى مكتب الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، حيث وصله تقرير يتحدث عن أغنيات الشيخ إمام التي كتبها أحمد فؤاد نجم يسخر فيها من الثورة وقائدها ويهاجم الحكومة، فأمر الرئيس باعتقال الاثنين، على الرغم من معارضة زير الثقافة للاعتقال، لكن رد عبد الناصر كان حاسماً رغم كل الوساطات، كما ذكر الكاتب صلاح عيسى هذه الحادثة في تقديمه لمذكرات نجم، وقال "لكن عيد الناصر الذي كان ككل الثوار يتألم إذا انتقده ثائر، قال بغضب، اعتقلوهم بلاش كلام فارغ".

بقي نجم وإمام في المعتقل حتى وفاة عبد الناصر عام 1970، حيث أفرج عنهما الرئيس الراحل أنور السادات بعد توليه الحكم، كما أن نجم رثى عبد الناصر بقصيدة بديعة:

"عمل حاجات معجزة وحاجات كتير خابت

وعاش ومات وسطنا على طبعنا ثابت

وإن كان جرح قلبنا كل الجراح طابت

ولا يطولوه العدا مهما الأمور جابت".

لم ينعم نجم بالحرية طويلاً، حيث اتهمه السادات بالإساءة لرئيس الجمهورية، وعرضه على المحكمة العسكرية عام 1978، في سابقة هي الثانية من نوعها في مصر بعد أن تعرض المنفلوطي لحادثة مشابهة عام 1909، أما دليل الإدانة كان شريطاً مسجلاً لقصيدة ألقاها نجم في جامعة عين شمس عم1977 بعنوان (بيان هام)، حيث لم يتم تناول رئيس الدولة بشكل مباشر، لكن التهمة كانت الإيحاء إليه بتقليده في الإلقاء، ليتم الحكم على نجم بالسجن لمدة سنة واحدة مع الشغل، لكن نجم هرب من الحكم، وبقي على ذلك الحال إلى أن قبض عليه بعد ثلاثة سنوات، ليقضى فترة العقوبة.

غادر مصر لأول مرة في حياته بعد أن بلغ عقده الخامس

تمت دعوة الثنائي إمام ونجم وعازف الإيقاع محمد علي، لتقديم فنهما على خشبة مسرح الأولمبياد في باريس عام 1985، لتكون المرة الأولى التي يغادر فيها أرض مصر، حيث كان ممنوعاً من السفر أيام السادات، كما استكمل جولته على العديد من الدول العربية، مثل سوريا والأردن والعراق، فوجد أن شعره قد سبقه، كما سبقه لحن إمام، حيث كانت شعبيته كبيرة جداً خارج مصر، ربما أكبر من توقعاته بكثير، لكن هذه الجولات حملت معها بذور الخلافات بين نجم وإمام، حتى توقفا عن العمل معاً، دون أن تتوفر معلومات كافية عن سبب هذا الخلاف، إلى أن الشيخ أمام اتهم نجم بحب التسلط ورغبته في احتكار ذلك النجاح الكبير، ولم تنتهِ تلك الخلافات إلا قبل وفاة الشيخ إمام بفترة قصير عام 1995.

تزوج أربع مرات وأنجب ابنة أصغر من أحفاده

في بداية السبعينات انتشر خبر زواج أحمد فؤاد نجم من الكاتبة الصحفية صافيناز كاظم، حيث كان الخبر صادماً للمحيطين بكلا الزوجين، فصفيناز خريجة الجامعة الأمريكية في القاهرة حاصلة على ماجستير في النقد المسرحي، حيث لم يكن زواجها منطقياً من الشاعر الصعلوك المتمسك بجذوره، لكن هذا الزواج تم على أي حال، وأنجبت منه ابنته نوارة، التي كانت ناشطة بشكل ملفت في ثورة الخامس والعشرين من كانون الثاني/يناير عام 2011، التي أطاحت بالرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، كما كانت ناشطة في الحراك ضد الإخوان المسلمين فيما بعد، والذي أفضى أيضاً لإقصائهم عن حكم مصر.

انفصل نجم عن زوجته، ليتزوج فيما بعد من ابنة أحد الباشوات وهي عزة بلبع، وانفصلا أيضاً، ثم تزوج من فنانة مسرحية جزائرية اسمها صونيا ميكيو، وأخيراً تزوج من إحدى جاراته وأنجب منها أصغر بناته زينب عندما بلغ الثالثة والستين من العمر.

أعمال أحمد فؤاد: تميز شعر نجم بسهولته وبساطته

مرت أشعار أحمد فؤاد نجم بمرحلتين أساسيتين، ما قبل نكسة حزيران 1967، وما بعدها، تميزت مرحلة ما قبل النكسة بقصائد رومانسية وجهها لأمه وأبيه، كذلك بالقصائد الوطنية التي تغنت بمصر ونيلها، كما برزت ميوله اليسارية في هذه الفترة من خلال شعره، إضافة إلى إبرازه قدرة استثنائية على تحويل العادي إلى شعري، دون المساس بالفنية الشعرية للقصيدة، مستغلاً مرونة اللهجة المصرية حتى آخر قطرة، وهي المعروفة أنها أكبر من أن تكون لهجة، لكنها أقل من أن تكون لغة، ومن أبرز القصائد التي كتبها في هذه المرحلة (الجزائر):

"ارقص يا نيل ساعة الأصيل والشمس رامية شعرها ورا ضهرها على صفحتك

رامية سلاسل من دهب داب وانسكب في ميتك ولا الصبايا العطشانين متبعترين على ضفتك"

إضافة إلى العديد من القصائد البسيطة في المعنى، المعبرة عن شؤون شخصية أكثر منها شؤون عامة، كقصيدته التي كتبها بعد خروجه من السجن أول مرة، يصف فيها الغرفة التي سكنها على سطح أحد الأبنية في حي شعبي:

"في الصيف جهنم ولا أسوان وفي الشتا زي أوربا

والقملة فيكي تجر حصان والبق فيكي بيتربى"

أما المرحلة الثانية؛ فهي نقلة نوعية غير متوقعة من شاعر متصعلك مثل نجم، خاصة وأنه كان قد تخطى سن التمرد، حيث قامت نكسة عام 1967 عندما تخطى السادسة والثلاثين من عمره، لكنه استجاب استجابة سريعة ومتميزة، وكان من بين القلائل الذين تجرأوا على انتقاد سياسات عبد الناصر في العلن، من أبرز قصائده أيام حكم عبد الناصر، هي القصيدة التي كتبها بعد النكسة مباشرة بعنوان (الحمد لله):

"يا أهل مصر المحمية بالحرامية الفول كتير والطعمية والبر عمار

والعيشة معدن وأهي ماشية وآخر أشيا مدام جنابو والحاشية بكروش وكتار"

كذلك قصدية القضية عام 1969:

بعضها رايح للهيود ويعضها مات

واللي جابوا النكسة لسه على الكراسي، والكراسي فوق ضهور المخلوقات"

ولم يتوقف نجم يوماً عن الكتابة اللاذعة المباشرة، فبرز صوتاً عالياً أيام الرئيس الراحل أنور السادات كما كان أيام عبد الناصر، فكتب العديد من القصائد التي انتقد فيها علاقات السادات الخارجية مع أمريكا وتحضيره للسلام مع الاحتلال الصهيونية، كما انتقد سياسة الانفتاح الاقتصادي التي انتهجها السادات، من بين هذه القصائد قصيدة (موال الفول واللحمة) عام 1973:

"عن موضوع الفول واللحمة صرح مصدر قال مسؤول

إن الطب اتقدم جداً والدكتور محسن بيقول

إن الشعب المصري خصوصاً من مصلحته يقرقش فول

حيث الفول المصري عموماً يجعل من بني آدم غول"

إضافة إلى قصيدته المشهورة عن زيارة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون (Richard Nixon) إلى عدة دول عربية من بينها مصر عام 1974:

"جواسيسك يوم تشريفك عملولك دقة وزار، تتقصع فيه العايقة والساكت والمنشار

والشيخ شهمورش راكب ع الشعب وهات يا مواكب وبواقي الزفة عناكب ساحبين من تحت الحيط

واهو مولد ساير داير شيلاه يا اصحاب البيت"

إضافة إلى عشرات القصائد اللاحقة، من أبرزها قصيدة "البتاع"، وقصيدة "احنا مين وهما مين"، كذلك قصيدته "شقلبان"، و"جيفارا مات"، وقد غنى الشيخ إمام أغلب هذه القصائد، كما قامت فرقة بساطة المصرية بتلحين قصيدته "كلب الست" مؤخراً عام 2015.

وفاته: مش ح موت قبل ما اشوف مصر عروسة

توفي الشاعر أحمد فؤاد نجم في الثالث من كانون الأول/يناير عام 2013، بعد عودته من الأردن، حيث أحيا هناك آخر أمسياته الشعرية، وكان قد فاز بجائزة كلاوس الهولندية، لكنه مات قبل استلام الجائزة بأيام، توفي نجم عن عمر يناهز الرابعة والثمانين، تاركاً ورائه إرثاً شعرياً كبيراً، بعد أن سجل مع الشيخ إمام ولادة ظاهرة جديدة في الموسيقى والكلمة، ما تزال خالدة حتى يومنا هذا.