أمَا آن لهذا الورق أن يترجل

The Evolution from Paper to Digital: Redefining Knowledge and Human Connection in the Modern Era

  • بواسطة: أيمن دراوشة تاريخ النشر: منذ يوم زمن القراءة: 3 دقائق قراءة
أمَا آن لهذا الورق أن يترجل

أمَا آن لهذا الورق أن يترجل

الورق كان حارس ذاكرتنا، نكتب عليه أحلامنا وآلامنا. لم يكن مجرد أوراق بيضاء، بل كان بيتًا صغيرًا نحتمي بين جدرانه، نلوذ إليه كلما ضاقت بنا الطرق. بين صفحاته الأولى تعلمنا كيف نكتب الحروف، وكيف نرسم خطوطنا الأولى المرتجفة. على ورقٍ آخر كتبنا رسائلنا الأولى، اعترافاتنا السرية، وودعنا أحبتنا الذين غابوا. الورق لم يكن جمادًا؛ كان روحًا نعم الرفيق والصديق، وكان مرآة عكست ضعفنا وقوتنا معًا.

لكن الحياة لا تعرف التوقف. التغيير جزء من طبيعتها، ومن لا يغيّره يذبل معه. لذلك نودع اليوم الورق، لا كمن يلقي شيئًا مستهلكًا، بل كمن يشيّع صديقًا قديمًا كان له الفضل في تربيته المعرفية والوجدانية. نودعه بكل ما يحمله من ذكريات، ونخطو نحو زمن مختلف كل الاختلاف.

في السابق، كنا نفتح الكتب والموسوعات بحثًا عن إجابات. كنا نطالع الصحف صباحًا لنفهم ما يحدث في العالم. كان الوصول إلى المعرفة يحتاج جهدًا وصبرًا، كما كنا نجد متعة في ذلك العناء. أمَّا اليوم، فقد تغيّر المشهد كليًا. صار الإنسان نفسه مصدر معرفة حيّة، محرك بحث بشري ينبض بتجارب واقعية. لم نعد نحتاج إلى ورق أصفر أو كتب قديمة، يكفي أن تجلس مع شخص عاش التجربة، فيمنحك من خبرته ما يغنيك عن مكتبة بأكملها.

محركات البحث الرقمية غزت حياتنا، لكن مصيرها كمصير الورق بعد ظهور تطبيقات الذكاء الاصطناعي، فجوجل مثلا يعطيك أكثر من نتيجة، وربما نتائج أخرى لا علاقة لها بالموضوع الذي طلبته، أمَّا الذكاء الاصطناعي فيكتب لك في صلب الموضوع، ويجمع لك المعلومات من أكثر من موقع بدلًا أن تقلِّب في الصفحات دون جدوى، إنَّها موجة جديدة تعيد للإنسان مكانته: أن يكون هو المكتبة، وهو المصدر. تسأل فيجيب، تفتح قلبك فيمنحك خلاصة ما عاش، وكأن المعرفة عادت إلى جذورها الأولى: من إنسان إلى إنسان، بلا وسائط ولا حواجز.

لكن الفارق كبير. المعرفة القديمة كانت ثقيلة، تحتاج رفوفًا وجدرانًا لتحملها. أمَّا الآن فهي خفيفة، تسافر بسرعة الضوء، تدخل إلى جيبك عبر هاتف صغير، أو تتجسد في حديث قصير مع شخص قابلته صدفة. لقد تغيّرت طبيعة المعلومة: من نص جامد إلى روح تتحرك معك، ومن أرشيف يعلوه الغبار إلى خبرة نابضة تنبض بالحياة.

هنا تظهر مفارقة الزمن الجديد: لم يعد الإنسان يقاس بعدد الكتب التي يملكها أو حجم مكتبته، بل بقدرته على أن يكون هو نفسه مكتبة متنقلة. المعرفة لم تعد تُخزَّن في أدراج، بل تتجسد في شخصيات حيّة، في قصص وتجارب، في أصوات بشرية تعيد صياغة الإجابات بلغة الدفء والحنان.

رحل الورق، لكنه لن يموت. سيظل رمزًا لبداياتنا، للشغف الأول بالمعرفة، لرائحة الحبر والصفحات التي كانت تفوح منها طفولة أحلامنا. سنظل نعود إليه بين حين وآخر، مثل من يعود إلى بيت الطفولة، يلمس الجدران، ويشم رائحة الخشب العتيق. لكننا في النهاية أبناء حاضرنا، محكومون بالمسير نحو الأمام.

إنه زمن جديد يفتح أبوابه، زمن لا يُقاس فيه العقل بكم الورق الذي يقتنيه، بل بمدى انفتاحه على العالم، وبمقدرته على أن يكون جزءًا من ذاكرة إنسانية أكبر. هكذا يترجل الورق عن عرشه، ويسلّم الراية لزمن السرعة والتواصل اللحظي، تاركًا خلفه إرثَا من الدهشة، وجيلًا قادرًا أن يكتب تاريخه بطرق لم تخطر يومًا على بال الورَّاقين.

القيادي الآن على واتس آب! تابعونا لكل أخبار الأعمال والرياضة
  • المحتوى الذي تستمتع به هنا يمثل رأي المساهم وليس بالضرورة رأي الناشر. يحتفظ الناشر بالحق في عدم نشر المحتوى.

    الكاتب أيمن دراوشة

    أيمن دراوشة - أردني - كاتب وناقد أدبي - حاصل على عدة جولئز محلية ودولية بشتى صنوف الأدب - القصة - الرواية - الخاطرة - المسرحية - الشعر الغنائي والفصيح - فن المقامة وغيرها. لدي العديد من الكتب الأكاديمية والأدبية منها صعوبات التعلم ومجموعة التاج العظيم للطفل قصص قصيرة وكم كنا رائعين معا مجموعة قصصية - وكذلك مسرحية محاكمة الشمس للأطفال وكتابي الاخير تربية الموهوبين

    image UGC

    هل لديكم شغف للكتابة وتريدون نشر محتواكم على منصة نشر معروفة؟ اضغطوا هنا وسجلوا الآن!

    انضموا إلينا مجاناً!