قصائد وأشعار نزار قباني السياسية

  • بواسطة: بابونج تاريخ النشر: الأحد، 24 نوفمبر 2019 آخر تحديث: الأحد، 24 ديسمبر 2023

ما أن يُذكر اسم الشاعر السوري نزار قباني حتى يشار إليه بشاعر الحب والرومانسية، وما تزال هذه الصفة ملازمة له بعد مرور سنوات طويلة على وفاته.

لكن لدى نزار قباني سلسلة من القصائد السياسية اللاذعة التي لم تنتشر بقدر انتشار قصائد الحبِّ والغزل على الرغم من جرأتها وأهميتها.

كما أن قباني نشر هذه القصائد في مراحل سياسية حساسة من تاريخ الشعب العربي عموماً والسوري خصوصاً.

 

الشاعر الدبلوماسي نزار توفيق قباني

نزار قباني ابن عائلة دمشقية عريقة حيث كان جده أبو خليل القباني أول من أدخل المسرح وفنون الأداء المسرحي إلى دمشق، كما كان والده من المناضلين ضد الاستعمار الفرنسي وقد سخر لذلك منزله كمقر للاجتماعات.

ذلك المنزل الذي ولد فيه نزار قباني في حي مئذنة الشحم داخل دمشق القديمة في ربيع  عام 1921 تحديداً في الواحد والعشرين من آذار.

درس نزار قباني في مدرسة الكلية العلمية، وتتلمذ على يد الشاعر السوري خليل مردم بيك الذي ألَّف النشيد الوطني السوري فيما بعد.

ثم انتقل القباني إلى دراسة الحقوق وأصدر أول ديوان له أثناء فترة الدراسة الجامعية (قالت لي السمراء)، ثم تخرج من كلية الحقوق واتجه إلى العمل الدبلوماسي في وزارة الخارجية السورية عام 1945.

حيث تم إيفاده إلى القاهرة كملحق بالسفارة، وقد شغل خلال مسيرته المهنية العديد من المناصب الدبلوماسية حيث تم تعيينه سفيراً لسورية في تركيا والصين وإسبانيا.

ليستقيل من السلك الدبلوماسي عام 1966 ويأسس دار نشرٍ باسمه في بيروت.

قدم قباني عشرات الدواوين الشعرية، وأعطى من كلماته لكبار المطربين والملحنين، كما تعرض لفواجع كبيرة في حياته أبرزها وفاة ابنه توفيق وزوجته بلقيس.

ولم يعد قباني إلى دمشق بعد أن ترك العمل الدبلوماسي بل استقر فترة في لبنان ومنها انتقل إلى مصر، ثم إلى سويسرا وأخيراً إلى لندن حيث توفي فيها في الثلاثين من نيسان/أبريل عام 1998، ودفن في مسقط رأسه في دمشق.

 

عرف الشعر العربي نقلة نوعية في موضوعاته بعد النكسة عام 1967

بدأ نزار قباني مسيرته الشعرية مع الشعر الغزلي في ديوانه قالت لي السمراء عام 1944، وأثار الديوان ضجَّة كبيرة لجرأة الطرح الغزلي فيه، فواجه انتقادات كثيرة في الأوساط الاجتماعية والدينية قبل الأوساط الثقافية.

حيث اتهم الشاعر ببعث القصائد الفاحشة على نهج عمر بن أبي ربيعة، والإغراق بوصف تفاصيل الأنثى الجسدية، من قصائد ديوانه الأول:

سمراءُ صُبِّي نهدَك الأسمرَ في دنيا فمي

نهداكِ نـَبْعا لذة حمراءَ تُشعلُ لي دمي

متمرّدان على السماءِ على القميص المُنعَم

صنمانِ عاجيّان قد ماجا ببحرٍ مُضرم

صنمان.. إني أعبد الأصنام رغم تأثمي

لم تكن هذه الكلمات مقبولة اجتماعياً حيث شهد الديوان معارضة شرسة من المشايخ في دمشق وغيرها من المدن، لكن هذه البلبلة ساهمت في انتشار شعر قباني بسرعة قياسية ليجد أن ديوانه الأول قد سبقه إلى مصر عام 1945.

واستمر نزار قباني يعمل في السياسة ويكتب في غيرها حتى نكسة عام 1967، حيث برزت أولى تجاربه مع الشعر السياسي المباشر.

نكسة 1967 والشعراء

ليس نزار قباني وحده الذي تغير بعد النكسة، لكن الاتجاه العام للشعر العربي كلُّه انجرف إلى الشعر السياسي والانتقاد اللاذع على خلفية الهزيمة الكبيرة.

ويمكن أن نتحدث في هذا المجال عن شعر فدوى طوقان مثلاً، أو عن الشاعر المصري أحمد فؤاد نجم الذي أحدث تحولاً في اتجاه القصيدة العامية المصرية بعد النكسة فانتقل من القصائد العادية إلى قصائد الانتقاد السياسي.

كما برزت أسماءٌ كبيرة في وقت لاحق امتهنت الشعر منها العراقيان مظفر النواب وأحمد مطر.

أشعار نزار قباني والنكسة

فجأةً انهارت رومانسية نزار قباني تحت قصف الطائرات المعادية وخيبة الأمل، فصرخ موجوعاً متخلياً عن كل ما قاله سابقاً، فأراد أن يضع القصيدة خنجراً في قلوب من تسببوا بالهزيمة.

وربما تكون أشهر الصيحات التي أطلقها نزار قباني هي قصيدته (هوامش على دفتر النكسة) ونقف عند بعض مقاطعها، حيث يودِّع في مطلعها كل ما قاد العرب إلى الهزيمة من وجهة نظره:

أنعي لكم يا أصدقائي اللغة القديمةْ، والكتب القديمةْ

أنعي لكم؛ كلامنا المثقوب كالأحذية القديمةْ

ومفردات العهر والهجاء والشتيمةْ

أنعي لكم.. أنعي لكم نهاية الفكر الذي قاد إلى الهزيمةْ

مالحةٌ في فمنا القصائد... مالحةٌ ضفائر النساء

والليل والأستار والمقاعد... مالحةٌ أمامنا الأشياء

نزار قباني يكتب هوامش النكسة بالسكين وهي من قصائد نزار قباني السياسية عن دمشق:

يا وطني الحزينْ

حولتني بلحظةٍ من شاعرٍ يكتب الحب والحنينْ

لشاعرٍ يكتب بالسكينْ

لأنَّ ما نحسهُ أكبر من أوراقنا، لا بد أن نخجل من أشعارنا.

هوامش النكسة والسلطان

يا سيدي السلطان ... لقد خسرت الحرب مرتين

لأن نصف شعبنا.. ليس له لسان، ما قيمة الشعب الذي ليس له لسان؟

لأن نصف شعبنا محاصرٌ كالنمل والجرذان، في داخل الجدران

لو أحدٌ يمنحني الأمان من عسكر السلطان

قلت له: لقد خسرت الحرب مرتين لأنك انفصلت عن قضية الإنسان.

قصائد أخرى عن النكسة من شعر نزار قباني

أصبح شهر حزيران عقدة عند نزار قباني حيث خاطبه بشكلٍ شخصي في قصيدته (خطاب شخصي إلى شهر حزيران):

كُنْ يا حُزيرانُ انفجاراً في جماجِمنا القديمةْ ..

كنِّسْ ألوفَ المفردات، وكنِّس الأمثال والحِكمَ القديمةْ

مزقْ شراشفنا التي اصفرتْ، مزق عباءتنا التي بليتْ

ومزقْ جلدَ أوجهِنا الدميمةْ ..

وكنِ التغيرَ والتطرفَ، والخروجَ على الخطوطِ المستقيمةْ

أطلقْ على الماضي الرصاصَ، كُنِ المسدس والجريمةْ .

قصيدة الممثلون

حرب حزيران انتهت فكلُّ حربٍ بعدَها، ونحنُ طيّبونْ

أخبارُنا جيّدةٌ  وحالُنا ـ والحمدُ للهِ على أحسنِ ما يكونْ

جمرُ النراجيلِ... على أحسنِ ما يكونْ

وطاولاتُ الزّهرِ ما زالتْ على أحسنِ ما يكونْ

والقمرُ المزروعُ في سمائِنا مدَوَّرُ الوجهِ على أحسنِ ما يكونْ

وصوتُ فيروزَ من الفردوسِ يأتي: نحنُ راجعونْ

تغَلْغَلَ اليهودُ في ثيابِنا، و"نحنُ راجِعونْ "

صاروا على مِترَينْ من أبوابِنا، و"نحنُ راجِعونْ"

ناموا على فراشِنا، و"نحنُ راجِعونْ"

وكلُّ ما نملكُ أن نقولَهُ: إنّا إلى الله لَراجعونْ.

 

وقع نزار قباني في فخ جمال عبد الناصر

على الرغم من أن قباني هاجم نهج عبد الناصر من خلال قصائد النكسة وحمَّل الحكام العرب مسؤولية الهزيمة، لكنه رثا عبد الناصر بقصائد عديدة وكأن حزيران لم يكن، أو أن جمال عبد الناصر لم يكن على صلة بالهزيمة.

وهذا الفخ الناصري لم يقع فيه نزار قباني وحده بل الكثير من الشعراء والأدباء الذين هاجموا عبد الناصر في السر والعلن لكنهم رثوه بأبيات بديعة.

حيث افتتح نزار قباني ديوانه (لا) بثلاث قصائد في رثاء جمال عبد الناصر على الرغم من وجود بعض قصائد النقد السياسي في الديوان ذاته التي لا يمكن أن تكون موجهة إلى غير مرحلة عبد الناصر.

أول قصيدة في رثاء عبد الناصر هي القصيدة التي حملت اسمه (جمال عبد الناصر):

قتلناكَ... يا آخرَ الأنبياءْ

قتلناكَ... ليسَ جديداً علينا اغتيالُ الصحابةِ والأولياءْ

فكم من رسولٍ قتلنا وكم من إمامٍ ذبحناهُ وهوَ يصلّي صلاةَ العشاءْ

فتاريخُنا كلّهُ محنةٌ وأيامُنا كلُّها كربلاءْ.

رسالة إلى جمال عبد الناصر

يا أيُها المعلّمُ الكبيرْ كم حزنُنا كبيرْ، كم جرحُنا كبيرْ

لكنّنا نقسمُ باللهِ العليِّ القديرْ

أن نحبسَ الدموعَ في الأحداقْ، ونخنقَ العبرةْ

نقسمُ باللهِ العليِّ القديرْ، أن نحفظَ الميثاقْ ونحفظَ الثورةْ

وعندما يسألُنا أولادُنا من أنتمُ؟ في أيِّ عصرٍ عشتمُ؟

 في عصرِ أيِّ مُلهمِ؟ في عصرِ أيِّ ساحرِ؟

نجيبُهم: في عصرِ عبدِ الناصرِ

الله ما أروعها شهادةً أن يوجدَ الإنسانُ في عصرِ عبدِ الناصرِ.

الهرم الرابع

السيّدُ نامَ..

وكيفَ أصدِّقُ أنَّ الهرمَ الرابعَ ماتْ؟

القائدُ لم يذهبْ أبداً بل دخلَ الغرفةَ كي يرتاحْ

وسيصحو حينَ تطلُّ الشمسُ كما يصحو عطرُ التفاحْ

الخبزُ سيأكلهُ معنا، وسيشربُ قهوتهُ معنا

ونقولُ لهُ ويقولُ لنا

القائدُ يشعرُ بالإرهاقِ فخلّوهُ يغفو ساعاتْ

 

الخروج المؤقت من قصائد النقد السياسي

كأنَّه استعاد أملاً فقده بعد حرب السادس من تشرين الأول/أكتوبر عام 1973، فكتب نزار قباني قصيدة يداوي بها جراح الهزيمة تحت عنوان (ترصيع بالذهب على سيف دمشقي):

مزقي يا دمشق خارطة الذل وقولي للـدَّهر كن فيـكونُ

استردت أيامها بكِ بدرٌ واستعادت شبابها حطينُ

كتب الله أن تكوني دمشقَ بكِ يبدأ وينتهي التكويـنُ

هُزم الروم بعد سبعٍ عجافٍ وتعافى وجداننا المـطعـونُ

اسحبي الذيل يا قنيطرة المجد وكحل جفنيك يـا حرمونُ

علمينا فقه العروبـة يا شام فأنتِ البيـانُ والتبيينُ

وطني، يا قصيدة النار والورد تغنـت بما صنعتَ القـرونُ

اركبي الشمس يا دمشق حصاناً ولك الله حـافظٌ وأميـنُ

 

نزار قباني لم يرثِ زوجته بل رثى الأمَّة العربية

انسحب نزار قباني من العمل الدبلوماسي كما ذكرنا عام 1966 وانتقل إلى العاصمة اللبنانية بيروت، حيث أقام فيها مع زوجته الثانية بلقيس والتي تعرَّف إليها في العراق.

أمَّا في بيروت فقد ولدت قصائد نزار قباني السياسية الأولى، وفي بيروت أيضاً اعتبر أنَّه يمتلك حرية الكتابة حين قال:

"عدت إلى بلد لا يضربني على أصابعي عندما أكتب"

لكنَّه مني بفاجعة كبيرة جعلته يغادر بيروت بعد أن قُتلت زوجته بلقيس في عملية انتحارية أمام السفارة العراقية في بيروت.

وأصدر ديوانه الشهير بعنوان (بلقيس) والذي لم يكن رثاء لزوجته بقدر ما كان رثاء المدن والشعوب كلِّها وهجوماً على الحكام والسياسيين، يقول نزار قباني في ديوانه بلقيس:

شُكراً لكمْ... شُكراً لكمْ

فحبيبتي قُتلتْ وصارَ بوسْعكم أن تشربوا كأساً على قبرِ الشهيدةْ

وقصيدتي اغتيلت ... وهَلْ من أُمَّةٍ في الأرضِ -إلَّا نحنُ- تغتالُ القصيدةْ؟

وفي مقطع آخر من القصيدة يهاجم قباني العروبة وأهلها:

أيّة أُمَّةٍ عربيةٍ تلكَ التي تغتالُ أصواتَ البلابِلْ؟

أين السَّموألُ؟ والمُهَلْهِلُ؟ والغطاريفُ الأوائِلْ؟

فقبائلٌ أكلتْ قبائلْ، وثعالبٌ قتلتْ ثعالبْ، وعناكبٌ قتلتْ عناكبْ.

قَسَمَاً بعينيكِ اللتينِ إليهما تأوي ملايينُ الكواكبْ

سأقُولُ، يا قَمَرِي، عن العَرَبِ العجائبْ  

فهل البطولةُ كِذْبَةٌ عربيةٌ؟ أم مثلنا التاريخُ كاذبْ؟

هذه ليست مرثية

بلقيسُ يا عِطْراً بذاكرتي, ويا قبراً يسافرُ في الغمامْ

قتلوكِ في بيروتَ مثلَ أيِّ غزالةٍ، من بعدما قَتَلُوا الكلامْ

بلقيسُ ليستْ هذهِ مرثيَّةً؛ لكنْ على العَرَبِ السلامْ

 

لاحقت السياسة نزار قباني من دولة إلى أخرى

ليست بلقيس وحدها من ماتت في ذلك التفجير، بل هناك الكثير من الأشياء التي ماتت في نزار قباني؛ فضاقت عليه بيروت التي قال فيها:

"بيروتُ تقتُلُ كلَّ يومٍ واحداً مِنَّا، وتبحثُ كلَّ يومٍ عن ضحيَّةْ"

عندها قرر الرحيل إلى مصر والإقامة فيها خاصةً وأن له فيها أصدقاء وأحبة، كما أن مصر كانت ملاذاً دائماً للأدباء والشعراء.

لكنها ضاقت به أيضاً فواجه مشاكل كثيرة على خلفية قصائده المناوئة لاتفاقيات السلام المنفردة مع العدو الإسرائيلي والتي عقدها الرئيس المصري آنذاك أنور السادات.

نزار قباني وأنور السادات

 لم يقف نزار قباني صامتاً أمام اتفاقية السلام التي أبرمها أنور السادات مع العدو الإسرائيلي، فكتب قصيدة مشهورة بعنوان (اليوميات السرية لبهية المصرية) والتي كانت نقداً لاذعاً للرئيس السادات وصل حد الهجاء.

فتسبب ذلك بحملة إعلامية كبيرة ضد نزار قباني، كما تسببت هذه القصيدة بعدم قدرته على البقاء في مصر أكثر من عام واحد.

فانتقل منها إلى سويسرا عام 1984 ومنها إلى لندن فكانت المدينة التي شهدت على موته، أما القصيدة التي طردته من مصر وهي من قصائد نزار قباني السياسية الممنوعة كانت:

كان اسمهُ كما يقالُ أنور الساداتْ

كان اسمهُ المأساة، والعِلمُ عند الله والرواةْ

وكان يمشي خلفَ عبد الناصر العظيم مثل الشاةْ

منحنياً منكسراً نصفين، وشاحباً وصامتاً وزائغ العينين

وكان أقصى حلمه في أولِ الثورةِ أنْ يهتمَّ بالحقائبْ

وأن يقول للرئيس آخر النكات

كنا نراه دائماً يجلس في سيدنا الحسين يستغفر الله ويتلو سورة الرحمن

كنا نظن أنَّه يرتل القرآن... لكنه فاجأنا وأخرج التوراة

كنا نظن أنَّه سيدخل القدس على حصانه، ويستعيد المسجد الأقصى من الأسر

ويدعو الناس للصلاة لكنه فاجأنا وسلم الأرض من النيل إلى الفرات

هل أصبحت راشيل في تاريخنا خديجة؟ وصار موسى... أنور السادات

يا للعجب.

دافع نزار قباني عن مستقبل مصر من وجهة نظره

يا مصر، يا قصيدة المياه والجسور والمآذن الورديةْ

يا زهرة اللوتس، يا كتابة زرقاء فاطميةْ

أيتها الصابرة، الصامتة، الطيبة، النقيةْ

أيتها القاهرة المقهورة، الضعيفة، القويةْ

يا من يداها ذهب وصوتها حريرْ

ماذا جرى من بعد عبد الناصر الكبيرْ؟

من مسح الحنَّة عن يديك يا بهيةْ؟

من سرق النجوم من ليل العيون السودْ؟

ماذا جرى لجيمك الملحنةْ؟ والعسل المسكوب من لهجتك المصرية؟

ماذا جرى للكعك؟ والأطفال؟ والموالد الشعبية؟ والحزن في الشوارع الخلفية؟

يا مصر يا حبيبة ابن العاص وعشقه الأول والأخير

لن يستطيع الرجل الصغير

أن يطفئ الشمس، وأن يزور القضية

فأنت مهما ضاقت الحياة أو جاء كافور إلى الحكم، أو السادات

باقية في القلب يا بهية. 

 

كان السادات وحده من ذكره نزار قباني لكنَّه هجا كل الحكام في قصائد أخرى

لم يهجُ نزار قباني زعيماً بالاسم إلّا الرئيس الراحل أنور السادات، ولم يمدح أو يرثي زعيماً عربياً معاصراً إلَّا جمال عبد الناصر، لكنه في قصائده كان يهجو كلَّ الزعماء العرب.

وكان يتناول القمع الذي تمارسه السلطة السياسية العربية على شعوبها من المحيط إلى الخليج، ونذكر من قصائده مثلاً قصيدة (تقرير سري جداً من بلاد قمعستان):

هل تطلبون نبذة صغيرة عن أرض (قمعستانْ)؟

تلك التي تمتد من شمال أفريقيا  إلى بلاد نفطستانْ

تلك التي تمتد من شواطئ القهر الى شواطئ القتل إلى شواطئ السحل, إلى شواطئ الأحزانْ

وسيفها يمتد بين مدخل الشريان والشريانْ

ملوكها يقرفصون فوق رقبة الشعوب بالوراثةْ

ويفقأون أعين الأطفال بالوراثةْ

ويكرهون الورق الأبيض, والمداد, والأقلام بالوراثةْ

وأول البنود في دستورها يقضي بأن تلغى غريزة الكلام في الإنسان

الله يا زمان ...

قصيدة عزف منفرد على الطبلة

الحاكم يضرب بالطبلةْ، وجميع وزارت الإعلام تدق على ذات الطبلةْ

وجميع وكالات الأنباء تضخم إيقاع الطبلةْ

والصحف الكبرى والصغرى  تعمل أيضاً راقصةً في ملهى تملكه الدولةْ!

لا يوجد صوتٌ في الموسيقى أردأ من صوت الدولةْ...

مثل السردين، ومثل الشاي, ومثل حبوب الحمل

ومثل حبوب الضغط، ومثل غيار السيارات

الكذب الرسمي يبث على كل الموجات

وكلام السلطة براقٌ جداً كثياب الرقاصات

لا أحدٌ ينجو من وصفات الحكم وأدوية السُلطةْ

فثلاث ملاعق قبل الأكل وثلاث ملاعق قبل صلاة الظهر

وثلاث ملاعق بعد صلاة العصر  

وثلاث ملاعق قبل مراسيم التشييع وقبل دخول القبر

هل ثمة قهرٌ في التاريخ كهذا القهر؟

الطبلة تخترق الأعصاب فيا ربي: ألهمنا الصبر

لماذا يسقط متعب بن تعبان في امتحان حقوق الإنسان؟

يا وطني المصلوب فوق حائط الكراهيةْ، يا كرة النار التي تسير نحو الهاويةْ

لا أحدٌ من مضرٍ أو من بني ثقيف، أعطى لهذا الوطن الغارق بالنزيف

زجاجةً من دمه، أو بوله الشريف

لا أحدٌ على امتداد هذه العباءة المرقعةْ، أهداك يوماً معطفاً أو قبعةْ

يا وطني المكسور مثل عشبة الخريف

مقتلعون نحن كالأشجار من مكاننا مهجَّرون من أمانينا، وذكرياتنا

عيوننا تخاف من أصواتنا  حكامنا آلهةٌ يجري الدم الأزرق في عروقهم

ونحن نسل الجاريةْ.

الخطاب

أوقفوني وأنا أضحك كالمجنون وحدي

من خطاب كان يلقيه أمير المؤمنين

كلّفتني ضحكتي عشرَ سنينْ

سألوني، وأنا في غرفةِ التحقيقْ عمَّن حرَّضوني، فضحكت

وعن المال وعمَّن موَّلوني، فضحكت

كتبوا كلَّ إجاباتي ولم يستجوبوني

قال عنّي المدّعي العام وقال الجند حين اعتقلوني :أنَّني ضدَّ الحكومة

لم أكن أعرف أنَّ الضحك يحتاج لترخيص الحكومة! ورسوم، وطوابع

لم أكن أعرف شيئاً عن غسيل المخِّ أو فرم الأصابع

فعلى طول الصحارى العربية ممكن أن يكتب الإنسان ضدَّ الله .. لا ضدَّ الحكومة

فاعذروني أيّها السّادة إن كنت ضحكت

كان في ودّي أن أبكي ولكنّي ضحكت

(....)

أيّها السّادة :

إني وارث الأرض الخراب كلّما جئت إلى باب الخليفة

سائلا عن شرمِ الشيخِ وعن حيفا ورام الله و الجولان... أهداني خطاب

كلّما كلّمته جلَّ جلاله عن حزيران الذي صار حشيشاً نتعاطاه صباحاً ومساء

واحتفالاً مثل عيد الفطر والأضحى وذكرى كربلاء

ركب السيّارة المكشوفة السقف وغطّى صدره بالأوسمة... ورشاني بخطاب

كلّما ناديته : يا أمير البر والبحر ويا عالي الجناب

سيف إسرائيل في رقبتنا ... سيف إسرائيل في رقبتنا... سيف إسرائيل في رقبتنا

ركب السيّارة المكشوفة السقف إلى دار الإذاعة ورشاني بخطاب

ورماني بين أسنان الجواسيس وأنياب الكلاب

فاعذروني أيّها السّادة إن كنت كفرت

وصفوا لي صبر أيّوب دواءً فشربت

أطعموني ورق النشّاف ليلاً ونهاراً فأكلت

أدخلوني لفلسطين على أنغام ما يطلبه المستمعون

أدخلوني في دهاليز الجنون

فاعذروني أيَّها السَّادة إنْ كنت ضحكت

كان في ودِّي أن أبكي... ولكنّي ضحكتْ

 

الديك وعنترة، ما تزال هذه القصائد لغزاً يمكن تأويله بأكثر من طريقة

من أهم القصائد التي كتبها نزار قباني في النقد السياسي نجد قصيدة الديك وقصيدة عنترة (يوميات شقة مفروشة)، حيث شكلت في زمنها وما تزال تشكل نقطة مهمة في تاريخ الشعر العربي الحديث.

وعلى الرغم من وجود أسماء شعرية مشهورة بجرأتها لكن هاتين القصيدتين كانتا في طليعة القصائد السياسية، إلَّا أن نزار قباني كالعادة لم يشر إلى المتهم بالإصبع بل اتبع المثل الشامي القائل (اللي فيه شوكة بتنخزه).

قصيدة الديك لنزار قباني

نشرت هذه القصيدة في ديوان (هوامش على الهوامش) عام 1993، حيث استخدم نزار قباني رمز الديك للتعبير عن الشخصية القمعية التي كانت سائدة في كل الحكومات العربية آن ذاك.

لكنه لم يقصد شخصية الحاكم بل شخصية الرجل الثاني الذي يضرب بسيف الحاكم، كما أنَّ نزار قباني على ما يبدو كان يلمح إلى ما حدث بين الرئيس السوري آن ذاك حافظ الأسد وأخيه رفعت الأسد.

الذي كان يترأس فرقة عسكرية عرفت بـ (سرايا الدفاع)، حيث اختلف الاثنان بعد أن حاول رفعت الأسد السيطرة على السلطة وانتهت الأزمة بنفيه وقادة الفرقة الموالين له خارج سوريا.

واحتفاظ حافظ الأسد بالحكم في سوريا، فيقول نزار قباني:

في حارتنا ثمة ديك أميٌّ يرأس إحدى الميليشيات

لم يتعلم إلا الغزو وإلا الفتك وإلا زرع حشيش الكيف وتزوير العملات

كان يبيع ثياب أبيه ويرهن خاتمه الزوجي ويسرق حتى أسنان الأموات

في حارتنا ديكٌ كل مواهبه أن يطلق نار مسدسه الحربي على رأس الكلمات

(...)

في بلدتنا يذهب ديكٌ... يأتي ديك، والطغيان هو الطغيان

يسقط حكم لينينيٌ، يهجم حكم أمريكيٌ، والمسحوق هو الإنسان

الحاكم يتخلص من الديك

حين الحاكم سمع القصة، أصدر أمرًا للسياف بذبح الديك

قال بصوت غاضب:

كيف تجرأ ديك من أولاد الحارة أن ينتزع السلطة مني

كيف تجرأ هذا الديك؟؟ وأنا الحاكم دون شريك!!

قصيدة عنترة (من يوميات شقة مفروشة)

هذه القصيدة أيضاً تعتبر من روائع الأدب السياسي حيث لا يمكن أن يقال أنَّها لحاكم عربي دون غيره، بل كانت مناسبة لكلِّ الحكام العرب الذين اشتركوا في الصفات المذكورة من وجهة نظر نزار قباني:

هذي البلاد، شقة مفروشة يملكها شخص يسمى عنترةْ

يسكر طول الليل عند بابها ويجمع الإيجار من سكانها

ويطلب الزواج من نسوانها ويطلق النار على الأشجار، والأطفال

 والعيون، والأثداء والضفائر المعطرةْ

هذي البلاد كلُّها مزرعةٌ شخصيةٌ لعنترةْ

سماؤها، هواؤها، نساؤها، حقولها المخضوضرةْ

كل البنايات هنا يسكن فيها عنترةْ كل الشبابيك عليها صورة لعنترةْ

كل الميادين هنا تحمل اسم عنترةْ

عنترة يقيم في ثيابنا في ربطة الخبز, وفي زجاجة الكولا، وفي أحلامنا المحتضرةْ

في عربات الخس، والبطيخ، في الباصات، في محطة القطار، في جمارك المطار، في طوابع البريد،

في ملاعب "الفوتبول" في مطاعم (البيتزا...) وفي كل فئات العملة المزورة

 

كتب نزار قباني في السياسة كما كتب في الحب

لم تكن قصائد نزار قباني السياسية أقل شأناً من قصائده الغزلية والرومانسية، بغض النظر عن جماهيرية القصائد السياسية التي كتبها خاصة بعد مقارنتها بجماهيرية القصائد الغزلية.

حيث ترك أرشيفاً كبيراً من القصائد السياسية التي جُمعت في دواوين عدَّة أبرزها ديوانه (هوامش على الهوامش) وديوانه (القصائد السياسية الكاملة)؛ سنترككم الآن مع أبرز القصائد السياسية لنزار قباني:

قصيدة إلى أين يذهب موتى الوطن؟

نموت مصادفة ككلاب الطريق

ونجهل أسماء من يصنعون القرار

نموت ولسنا نناقش كيف نموت؟ وأين نموت؟

فيوماً نموت بسيف اليمين ويوماً نموت بسيف اليسار

نموت من القهر، حرباً وسلماً، ولا نتذكر أوجه من قتلونا

ولا نتذكر أسماء من شيعونا

فلا فرق -في لحظة الموت -بين المجوس وبين التتار

قصيدة متى يعلنون وفاة العرب؟

أنا منذ خمسين عاما أراقب حال العرب

وهم يرعدون ولا يمطرون، وهم يدخلون الحروب، ولا يخرجون!

وهم يعلكون جلود البلاغة علكاً ولا يهضمون

أنا منذ خمسين عاماً أحاول رسم بلادٍ  تسمى مجازاً بلاد العرب

رسمت بلون الشرايين حينا وحينا رسمت بلون الغضب.

وحين انتهى الرسم، ساءلت نفسي:

إذا أعلنوا ذات يومٍ وفاة العرب ففي أي مقبرةٍ يدفنون؟

ومن سوف يبكي عليهم؟ وليس لديهم بناتٌ، وليس لديهم بنون

وليس هنالك حزنٌ، وليس هنالك من يحزنون!!

أحاول منذ بدأت كتابة شعري قياس المسافة بيني وبين جدودي العرب!

رأيت جيوشاً ولا من جيوش، رأيت فتوحاً ولا من فتوح

وتابعت كل الحروب على شاشة التلفزةْ

فقتلى على شاشة التلفزةْ وجرحى على شاشة التلفزةْ

ونصرٌ من الله يأتي إلينا على شاشة التلفزةْ

أيا وطني: جعلوكَ مسلسل رعبٍ  نتابع أحداثه في المساء.

فكيف نراك إذا قطعوا الكهرباء؟؟

قصيدة مورفين

اللفظة طابة مطاطٍ يقذفها الحاكم من شرفته للشارع

ووراء الطابة يجري الشعب ويلهث كالكلب الجائع

اللفظة في الشرق العربي أرجوازٌ بارع

يتكلم سبعة ألسنةٍ ويطل بقبعةٍ حمراء

ويبيع الجنة للبسطاء، وأساور من خرزٍ لامع

ويبيع لهم فئراناً بيضاً وضفادع

ختاماً... يعتقد بعض محبي نزار قباني أنَّ سبب عدم انتشار قصائده السياسية بنفس القدر الذي انتشرت به الغزلية منها إنَّما يعود إلى تلحين وغناء كلمات الحبِّ والأشعار الرومانسية.

وربما كانت بداية نزار قباني (الماجنة) إن صح التعبير سبباً إضافياً لعدم قدرة القصيدة السياسية على الوصول إلى جمهوره بنفس القوة والرغبة.

فضلاً عن كونه خارج وطنه الذي يكتب عنه وله في عصر ما قبل انفتاح المعلومات الذي قلص المسافات بين المنفيين وأوطانهم.

في نهاية هذه المادة نورد واحدة من أشهر قصائد قباني السياسية:

أنا يا صديقة متعب بعروبتي فهل العروبة لعنة وعقاب؟

أمشي على ورق الخريطة خائفاً؛ فعلى الخريطة كلنا أغراب

أتكلم الفصحى أمام عشيرتي، وأعيد، لكن ما هناك جواب!

لولا العباءات التي التفوا بها ما كنت أحسب أنَّهم أعراب

يتقاتلون على بقايا تمرة فخناجر مرفوعة وحراب

قبلاتهم عربية، مَن ذا رأى فيما رأى قــُـبَلاً لها أنياب؟!