المفكر والمؤلف عبدالله ابن المقفع

  • بواسطة: بابونج تاريخ النشر: الأحد، 24 نوفمبر 2019 آخر تحديث: الإثنين، 16 أغسطس 2021
المفكر والمؤلف عبدالله ابن المقفع

أغنى المكتبة العربية بثقافته العالمية وعلمه الواسع، حظي باهتمامٍ بالغ في الدراسات النقدية القديمة والحديثة نظراً للمكانة التي احتلها، حيث اطلع على فنون العلم في زمانه؛ فألّف في العربية والأعجمية وأتقن لغة الفهلوية إتقاناً لم يعرفه سوى القليل، برع باللغة العربية وكان يتمتع بذكاءٍ حاد ما جعله الأول بين أقرانه، وكان يقول: "إن خيرَ الأدب ما حصل لكَ ثمره، وبان عليكَ أثره"، سنتطرق في مقالنا عن حياته وما قدمه للأدب.

 

حياة ونشأة عبدالله ابن المقفع

ولد عبد الله بن المقفع في عام 106 للهجرة/ 720 ميلادي في قرية جور التي ينسب إليها الورد الجوري، وهي إحدى قرى (فيروز آباد) والتي تقع حالياً في إيران من عائلةٍ فارسيةٍ نبيلة، والده داذويه والذي يعني المبارك، كان مسؤولاً عن الضرائب في ظل حكم الأمويين، اتهم داذويه باختلاس بعض الأموال التي أوكلت إليه فعندما علم الحجاج بن يوسف الثقفي قام بضربه على يديه حتى تفقعت من شدة الضرب وسمي بسبب ذلك بالمقفع.

  1. نشأ ابن المقفع أول عهده على المجوسية في بلاد فارس على مذهب المانوية (من العقائد المثنوية أي تقوم على معتقد أن العالم مركب من أصلين قديمين أحدهما النور والآخر الظلام) وتثقف باللغة الفارسية وبرع بلغتها الفهلوية وتعلم اللغة الهندية واليونانية، وعندما رأى والده فيه علامات النبوغ حرص على تعليمه وتحفيزه على المعرفة والكتابة كما حرص على تعليمه اللغة العربية التي كانت لغة العلم والأدب آنذاك.
  2. عندما بلغ الخامسة عشر من العمر انتقل مع والده إلى البَصرة التي كانت عاصمة العلم، الأدب، اللغة والشعر فتلقى فيها مبادئ الفصاحة وتعلم فنون البلاغة، ثم خالط الأعراب الذين يأتون إليها من البادية فأخذ اللغة والشعر عنهم وزاد محصوله من التراث الأدبي القديم، كما كان يجالس الأدباء والشعراء في سوق المربد؛ فتعلم منهم سلاسة اللسان ورقة الألفاظ وعذوبة المعاني.
  3. نشأ في عائلةٍ تتميز بعلاقاتها الوظيفية والإدارية في الدولة الأموية، وتحرص على تطوير أبنائها وتعليمهم اللغات المتداولة في العصر ليستمر تفوقهم في محيطها المتغير سياسياً، وبدأ ابن المقفع مشواره العلمي والوظيفي فتعمقت خبرته في الحياة العامة والخاصة حين دخل في دواوين الولاة الأمويين في فارس، وعمل لدواوين بعض الولاة مثل يزيد ابن عمر وأخيه داوود والي البصرة، والتقى بعبد الحميد الكاتب أحد أبرز أعلام الأدب العربي وأصبحا صديقين.
  4. عاش فترة انتقال الحكم من الأمويين إلى العباسيين فتوالت عليه الأزمات السياسية والاجتماعية التي عصفت بالبلاد، وعندما قامت الدولة العباسية عمِل كاتباً لسليمان ابن علي عم المنصور ولأخيه عيسى ابن علي والي الأهواز وعلى يديه أعلن ابن المقفع إسلامه وتكنى بأبي محمد.
 

صفات المفكر والمؤلف ابن المقفع

كان ابن المقفع فاضلاً، نبيلاً، كريماً ووفياً، ويمكن معرفة صدقه من خلال كتاباته فقد كان له سعيٌ كبير في العلم والمعرفة مما جعله من كبار المثقفين في عصره، اشتهر بوفائه للأصحاب ومن إحدى أقواله: "ابذل لصديقكَ دمكَ ومالكَ".

ومن القصص التي تدل على ووفائه أنه حين قتل مروان ابن محمد آخر خلفاء بني أمية، اختفى عبد الحميد الكاتب، فعثر عليه عند ابن المقفع وكان صديقه، عندما سئل الرجلان: "أيكما عبد الحميد؟" قال كل واحد منهما: "أنا" خوفاً على صاحبه.

 

أعمال عبدالله بن المقفع

1- الأدب الكبير

من أهم الأعمال التي كتبها عبد الله ابن المقفع ويعترف بأنه أخذ كتابه من أقوال المتقدمين، وقد قدم له بتوطئة في: فضل الأقدمين على العلم، شروط درسه والغرض من هذا الكتاب، وقسمه إلى مبحثين: الأول في السلطان ومصاحبه، وفي هذا المبحث بابان: الأول في آداب السلطان، والثاني في صحبة السلطان، أما المبحث الثاني فقد خصه بالأصدقاء، حسن اختيار الصديق، حسن معاملته، وكل ما له علاقة بالأصدقاء.

2- الأدب الصغير

كان ابن المقفع في الأدب الصغير ناقلاً أيضاً، فقد قال: "وقد وضعت في هذا الكتاب من كلام الناس المحفوظ حروفاً"، يتكلم في هذا الكتاب عن سياسة الملوك والولاة ويوصيهم بالصدق، ويُعد مجموعة من الدروس الأخلاقية الاجتماعية، التي تدعو المرء إلى تأديب نفسه.

3- كليلة ودمنة

هناك خلاف في أصل هذا الكتاب ولكن كتب ابن المقفع في مقدمته: أن الكتاب هندي الأصل، نقله الفرس إلى لغتهم ثم جاء هو ونقله من الفهلوية (الفارسية القديمة) إلى العربية، وفي هذا الكتاب يتعلم الأمراء كيف يحكمون الرعايا وكيف يتعايش الناس فيما بينهم، من خلال قصص أبطالها الحيوانات.

4- مرآة الأمراء

يهدف فيه إلى تقديم النصح والإرشاد للحكام والوزراء، وكان الهدف منه مستشار الخليفة والحث على تشجيع الحاكم المستقبلي على الاستماع إلى مشورة المرشدين المؤهلين، وإعطائها الأولوية وخاصة الاستماع إلى رجال الدين، وحذر ابن المقفع الأمير حول مختلف العثرات أمامه ولا سيما حب الإطراء، والحاجة إلى تحويل الخوف إلى التعقل والحرص على تحقيق العدالة.

5- رسالة في الصحابة

وهي رسالة كتبها إلى أبي جعفر المنصور، ناقش ابن المقفع في أقل من خمسة آلاف كلمة المشاكل المحددة التي تواجه النظام العباسي الجديد، تحدث من خلالها عن الجيش في العراق وعن قلقه من أن ضعف المعنويات ومشاكل الولاء تجعل الإصلاحات حتمية كما أوصى بإلغاء الرسوم المالية عنن الجيش ودعا إلى تجنيد الضباط من الرتب على أساس الجدارة والتعليم الديني، كذلك توسل الخليفة للتخلي عن سياسة التمييز وتجنيد الجنود العراقيينن الموهوبين والذين يمكن أن تستفيد الحكومة من خدماتهم.

أقدم وثائق تاريخ بلاد فارس القديم ضمن مؤلفات ابن المقفع

نقل ابن المقفع كتب الفرس المشتملة على ثقافتهم، تراثهم، أخلاقهم وسير ملوكهم، فنقل هذا التراث الفارسي المكتوب بالفهلوية (الفارسية القديمة) في أربعة كتب؛ أولها كتاب (فداينامه) في سير ملوك الفرس، ثانيها كتاب (آئين نامه) وهو كتاب في قوانين الفرس القدامى ورسوم ملوكهم في قيادة الجيوش وفنون الحرب والآداب العامة والتعامل بين الناس والأصدقاء، بين الملك وحاشيته، ووضحت الأساليب الفارسية في أروقــة الحكم وميـــادين الحــرب في عـــصر الخلافة العباسية.

أما ثالثها فكان كتاب (التاج في سيرة أنو شروان) وهو كتاب في سيرة الملك كسرى أنو شروان وأخلاقه، إصلاح أمور الرعية ونصائح أخلاقية لإقامة العدل، ورابعها (نامه تنسر) وهو كتاب في تشريعات الفرس القدامى، ويعد أقدم وثيقة تشريعية وتاريخية عن تاريخ الفرس القدامى، كما تعد هذه الكتب الأربعة المنقولة إلى العربية في حكم المفقود؛ لكن العديد من المؤلفين العرب كابن قتيبة والثعالبي قاموا باحتواء مادتها في أعمالهم.

قام ابن المقفع بترجمة العديد من الكتب الفلسفية

  • كتاب (قاطينورياس)، معناه المقالات العشر وهو إحدى الآثار المنسوبة إلى أرسطو.
  • كتاب (باري أرمي ناس)، معناه العبادة.
  • كتاب "ايسافوجي" أو المدخل لفورفوريوس الصوري.
  • كتاب (أنا لوطيقا)، معناه تحليل القياس.
 

نقل ابن المقفع تراثاً عالمياً إلى اللغة العربية

قدم عبد الله ابن المقفع النثر السردي في الأدب العربي، فن التوقيعات، الحكايات والقصص على ألسنة الحيوانات والمقامات وغيرها، ومهد الطريق للمبدعين بعده، وصف أسلوبه بالسهل الممتنع أيّ الذي يمتنع على سواه أن يأتي بمثله.

كما عمل على الدمج بين الأسلوب الفارسي والبلاغة العربية، وأضاف لقوة الأساليب العربية وجزالتها رقة وعذوبة وقدرة على تحليل المعاني والملائمة بينها، يظهر أسلوبه في ترتيب أفكاره وحسن تقسيمها، وهو أحد الكتاب الذين لم يلتزم بالسجع (توافق الفاصلتين في فقرتين أو أكثر في الحرف الأخير).

ولم يكن يستشهد في أسلوبه بشعر العرب، فاختار في تأليفه ألفاظاً سهلة وواضحة وحرص على الإيجاز والإقلال من الترادف، كما صوّر الأفكار الدقيقة في قالبٍ منطقي حيث التمس العلّة لكل حكم.

نقل ابن المقفع إلى اللغة العربية تراثاً ضخماً من آثار اللغات الفارسية والهندية واليونانية، واشتهر بترجمة الكتب التي تتناول أساس الحكم، ويقول الدكتور شوقي ضيف الأديب والعالم اللغوي في كتابه (تاريخ الأدب العربي في العصر العباسي الأول).

ولم يكن ابن المقفع بليغاً في ما كتبه وحسب بل كان أكبر بلغاء عصره، إذ استطاع أن يملأ أواني العربية بمادة أجنبية غزيرة دون أن يحدث فيه انحرافاً من شأنه أن يجر ضرباً من الازدواج اللغوي، إذ من المعروف أن لكل لغة صياغتها وأنماطها الخاصة في التعبير، ولها أيضاً صورها وأخيلتها، التي قد تستعصي على الأداء في لغة أخرى وشيء من ذلك لا يصادفنا عند ابن المقفع، فقد استطاع أن يحتفظ للعربية في ترجماته بمقوماتها الأصيلة.

كما استطاع المواءمة بين الأخيلة والصور الفارسية وذوق اللغة العربية بحيث لا نحس بانحراف، مما يشهد له بقدرته البيانية، وأنه استطاع أن يحوز لنفسه السليقة العربية التامة بكل شاراتها وسماتها اللغوية"، لكن برأي الدكتور طه حسين أن ابن المقفع كان واحداً من المستشرقين وأن لغته لغة مضطربة في كتابه الأدب الكبير.

 

سبب إتهام عبدالله بن المقفع بالزندقة

ذكر ابن النديم أسماء أكثر من عشرين كاتباً فارسي الأصل كانوا من فصحاء اللغة العربية، تركوا بصمةً واضحة في الحضارة الإسلامية، بل وأسهموا في رفد حضارة الإسلام النامية بكمٍ كبير من درر ونفائس تراث الإمبراطورية الساسانية وحضارة فارس، ومن بينهم ابن المقفع، الذي اتهم بالزندقة والعداء للإسلام من العديد من الأدباء والمفكرين؛ بسبب ترجمته للأدب الفارسي ومحاولة دمجه بالأدب العربي، ولأنه أظهر عيوب النظم الإدارية في عصره وفضّل النظم الإدارية الفارسية، وقد أخذ الفاروق عمر بن الخطاب الكثير من النظم الإدارية عن الفرس، واستطاع بناء دولة قوية فكان لهذا أثره الكبير في تطور الدولة الإسلامية.

وقد قال الجاحظ: "إن ابن المقفع ومطيع بن أياس ويحيى بن زياد كانوا يُتهمون" ولكنه لم يذكر اسم من كان يتهمه بالزندقة، وقد أورد العلامة ابن كثير في كتابه (البداية والنهاية) ما قاله المهدي عن ابن المقفع: "ما وجد كتاب زندقة إلا وأصله من ابن المقفع، ومطيع بن إياس، ويحيى بن زياد قالوا : ونسي الجاحظ، وهو رابعهم".

وقد قال ابن المقفع: "واضمرت في نفسي ألا أبغي على أحد، ولا أكذب بالبعث والقيامة والثواب والعقاب وأن لا إله إلا الله الفرد الصمد".

 

وفاة المفكر عبدالله بن المقفع

قتل وهو في مقتبل العمر ولم يتجاوز السادسة والثلاثين من عمره عام 142 للهجرة الموافق لعام 759 ميلادي كان ابن المقفع يسخر من سفيان ابن معاوية والي البصرة، وقد وصف أمه بالمغتلمة (المرأة التي لا تكتفي من الرجال) فغضب منه سفيان وقرر قتله، قام بربطه وأمر رجاله بتقطيع أطرافه ورميها في فرن متقد بينما ابن المقفع يشاهد ذلك حتى مات من شدة التعذيب.

من أشعار ابن المقفع، ما أنشده حين تعذيبه على يد سفيان بن معاوية

إذا ما مات مثلي مات شخصٌ يمــوت بموته خلق كثير

وأنتَ تموت وحدكَ ليس يدري بموتك لا الصغير ولا الكبير

وقد كتب المؤرخ أبو عبد الله شمس الدين الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء على هذه الحادثة قائلاً: "كان ابن المقفّع مع سعة فضله، وفرط ذكائه، فيه طيش، فكان يقول عن سفيان المهلبي: ابن المغتلمة مما تسبب بقتله".

أخيراً.. أبدع ابن المقفع في اللغة العربية وترك لنا ما يشهد على سعة عقله وعبقريته، وأبقى لنا من الآثار ما يصلح أن يقال فيه أنه صاحب المدرسة الرائدة في النثر الأدبي ولكن علمه وثقافته لم تشفع له عن اتهامه بالزندقة وللقتل، اعتبر ابن المقفع من أحد أهم الأدباء والمفكرين الذين تركوا أثراً واضحاً على الأدب العربي.

القيادي الآن على واتس آب! تابعونا لكل أخبار الأعمال والرياضة