الرمز في الشعر العربي الحديث

  • بواسطة: بابونج تاريخ النشر: الأحد، 24 نوفمبر 2019 آخر تحديث: الإثنين، 27 يونيو 2022

كان للترجمات التي نقلت عن الشعر الأوروبي مطالع القرن العشرين، دوراً كبيراً في التأثير ببنية القصيدة لدى الشعراء العرب ومضمونها.

لا سيما من حيث استخدام الرمز والدخول في عوالم اللاوعي وتغيير العلاقات بين الأشياء وإطلاقها بصورة مختلفة تعبر عن حالة الشاعر ومشاعره الدفاقة.

تطور الشعر الرمزي عند الشعراء اللبنانيين، ومن ثم نضج بصورةٍ موسعة لدى الشعراء العراقيين ولا سيما بدر شاكر السياب، الذي جدد في رمزية الشعر من حيث استخدام أساليب جديدة كالأقنعة والأساطير.

وكان الشاعر ولا يزال يتخفى خلف رمزه، إما ليحمي نفسه من بطش السلطان أو الجهات التي يناقض أفكارها.

أو لإضفاء طابع جمالي على قصيدته والتغلغل في عوالمه الداخلية والتعبير عن عواطفه الجامحة، ومن ثم تكثيف كل ذلك في صورة رمزية تختزل كل ما يصبو إليه.

 

الرمز في الشعر العربي الحديث ولد من رحم الشعر الأوروبي

تأثر الشعراء العرب برمزية الشعراء الأوربيين مثل، شارل بودلير، فرلين، مالارميه، والشاعر الأمريكي إدغار ألان بو، حيث كان لترجمات أشعار أولئك الشعراء.

لا سيما في النصف الثاني من القرن التاسع عشر_ دورٌ كبير في التأثير بالقصيدة العربية.

فظهر هذا التأثير في بدايات عام 1936، لا سيما عندما بدأ بعض الشعراء اللبنانيين يخرجون عن المألوف في القصيدة العربية.

وفي مقدمة هؤلاء الشعراء، سعيد عقل وأديب مظهر، فأصبح الرمز ظاهرة فنية من مظاهر القصيدة الحديثة وأثر بدوره على بنية القصيدة العربية ومضمونها.

فمن حيث المضمون أصبحت القصائد تطرح الإشكاليات الحديثة بصورة أكبر وتحمل ملامح إنسان العصر وهمومه وهواجسه، وتعالج موضوعات التحرر والظلم... الخ.

ومن حيث الشكل أسقط الشعراء الألفاظ الوحشية أو الألفاظ القديمة التي ترتبط بإرث شعراء البادية، كما صارت العناية في صياغة الرمز الشعري بالكلمات الرقيقة الشفافة ذات الوقع المؤثر والمرتبط بطبيعة الموضوع المطروح وزمانه.

والرمز لا يكون بسوَق كلمة غامضة، إنما تكون الكلمات ضمن سياقٍ يجعل الرمز يبلغ مداه، وكان أديب مظهر من أوائل الشعراء الذين تأثروا بالرمزية الأوروبية لاسيما رمزية الفرنسي ألبير سامان.

إذ كان دائماً يسعى للإفلات من القيود ورواسب الشعر العربي القديمة، والشعر عنده يبتعد عن المعقول ويتفق بذلك مع الشاعر سعيد عقل، الذي تأثر بفاليري ويرى أن الشعر يولد من اللاوعي وليس من الوعي.

 

الرمز الشعري ابنٌ شرعي لظروف القمع السياسي والاجتماعي

في المجتمعات التي لا يمكن للشاعر أن يطلق العنان لأفكاره بشكلٍ صريحٍ ومباشرٍ، لجأ للرمز في قصائده، إما لأن المجتمع يرفض أفكاراً بعينها ويحاربها ولا يتقبلها.

أو لأن السلطة السياسية في هذا المجتمع أو الدولة لا تتقبل حرية التعبير عن الرأي أو النقد والمساس بأحد أطرافها، ما يضع الشاعر في صدام مباشر مع قوى يمكن أن تعاقبه وتزجره، وتكمم فمه.

فكان أن لجأ الشاعر إلى الرمز كتعبير عن أفكاره بصورة غير مباشرة، وليحمي نفسه من الصدام المباشر مع أي جهة لا تتقبل أفكاره_بالإضافة لما يقدمه الرمز من تكثيف للفكرة وإيصالها بصورة أقوى إلى القارئ.

برز ذلك في المجتمعات العربية لا سيما في مراحل الاستعمار والاحتلال.

كما الحال مع الشاعر العراقي بدر شاكر السياب إبان الاحتلال الإنكليزي للعراق ومرحلة حكم نوري السعيد، أيضاً كما هو الحال مع الشعراء الفلسطينيين وفي مقدمتهم محمود درويش.

إضافة لدول عربيةٍ أخرى كانت الأنظمة الدكتاتورية - لا سيما التي وصلت إلى السلطة بعد مرحلة الاستقلال_ تعاقب وتكمم أفواه من يعارضها أو يستنهض الناس ضدها.

فكان سلاح الشاعر رمزه الذي يعبر فيه عن مشاعره الدفاقة وظلم أبناء مجتمعه وأفكاره الثائرة والمتمردة، متخفياً وراء رموزه وصوره المبهمة.

 

الرمز الشعري إيجاد لغة في اللغة

قد تتجاوز خوالج وأحاسيس الشاعر وأفكاره حدود اللغة بحالتها الطبيعية، وبالتالي عجزها عن استيعاب واحتواء ما تحمله منطقة اللاشعور التي تمثل حقيقة الإنسان.

لذلك يسعى بعض الشعراء إلى إيجاد لغة في اللغة من خلال؛ صقل الصورة الشعرية، تركيب المفردات وجعلها تقدم معنىً غير المعنى الذي تستخدم فيه.

وإن كان قد أطلق على ذلك اسم (الانزياح اللغوي)، الذي قد يصل بالشاعر إلى مرحلة من التعنت اللغوي والتعقيد الذي يؤدي النتيجة المعاكسة لما يصبو إليه.

وهو أمر بلغ مبلغه عند الشاعر الفرنسي ملارميه والشاعر اللبناني سعيد عقل، لكن يمكن إيجاد لغة في اللغة من استخدام الصورة البسيطة التي تبعد الشاعر عن التعبير اللغوي المباشر وتعبر عن خوالجه وحالاته اللاشعورية.

 

الرمز الشعري تغيير للعلاقات الطبيعية بين الأشياء

من خصائص الرمز أن يكون هناك امتزاجٌ تام بينه وبين الصورة التي يوحي إليها، كي يتحقق ذلك يجب أن تتجلى الصورة التي يعتمد عليها الرمز.

لأنه يستمد جزئياته من الواقع لكن لا يبقيها على حالها إنما يقوم بتحطيم علاقاتها الواقعية حتى تغدو فكرة مجردة من أوشاب المادة، فمثلاً يقول الشاعر المصري محمد عفيفي مطر في قصيدة له بعنوان قبض الريح:

و يا ليلاي قد أطعمت روح الليل أحزاني

وأورادي وألحاني

وهاجت في عروق الصمت كاسات من الأفكار

وفي عينييَّ شادوف يصب الليل أوهاماً ضبابية

ودوامات أشباحٍ وغدران من الآهات

تعوم على حوافيها تصاويرٌ خرافية

أفاعٍ تأكل الأضواء حتى الشمس تأكلها

عبير الزهر مسموم الخطى يلهث

وغابات الريح بعثرها

يستمد الشاعر صوره من الواقع، الليل، الضباب، الغدران، الشمس.. الخ، لكن هذه العناصر لا تحيا في البيئة الشعرية الحقيقية التي تحيا في الواقع، فالليل أوهام وهو ليس كذلك، والغدران آهات.

وعبير الزهر مسموم بدلاً من أن يكون كما في الواقع طيب الرائحة، وهو جمع هذه العناصر رغم أنها في الواقع لا تجتمع ووضعها في نسقٍ زمنيّ ومكاني واحد.

فهو يذوّب العلاقات الطبيعية بين تلك العناصر ويضع علاقات ذاتية من صنعه، حتى يبلغ لا شعوره ويعبر عما في أعماقه من مشاعر دفاقة ومخاوف.

 

استخدام الأسطورة كرمز شعري

لم تقف الرمزية عند استخدام الصور والتبديل في علائق الأشياء ووضعها في نطاق غير نطاقها اللغوي أو الزماني والمكاني للتعبير عن كوامن النفس الإنسانية.

إنما استخدم الشعراء المعاصرون الأساطير سواء كشخصيات أسطورية أو قصص ذات طابع أسطوري، من خلال وضع تلك الأسطورة في سياق يناسب الموضوع ويعكس خوالج الشاعر وأفكاره، دون سلخ الأسطورة عن حقيقة معناها.

فمثلاً استخدام أسطورة سيزيف الإغريقية (أسطورة الرجل الذي يرفع الصخرة مراراً وتكراراً إذ تسقط ثم يعيد رفعها إلى الجبل وهكذا) كان استخدامها دليلاً لليأس.

وهو ما كثر عند شعراء مثل أدونيس وبدر شاكر السياب، كما استخدمت أسطورة الآلهة عشتار للدلالة على الخصب والخير.

وميدوزا (الأسطورة التي تدل على الشر عند الإغريق وهي امرأة تحجر كل ما تقع عليه عيناها)، بالإضافة إلى استخدام أساطير كأوديب الذي تزوج أمه الجوكست دون أن يعلم أنها أمه، كذلك كدليل على عدم التبصر.

أو أبو الهول للدلالة على الظلم والاستبداد.

 

استخدام أسلوب القناع كأحد أشكال الرمزية

استخدم بعض الشعراء المعاصرون أسلوب القناع، وهو أن يتخفى الشاعر خلف شخصية ويمرر عبرها أفكاره وأماله وهواجسه، رابطاً بين ما يريد وبين الصفات والتجربة الحقيقية للشخصية.

وهو ما يتيح للشاعر التعبير عن أفكاره مبتعداً عن المباشرة وعن التعرض للملاحقة والأذى من قبل من يعنيهم. ظهر هذا الأسلوب في شعر السياب بشكل كبير لا سيما في قصيدة "صلب المسيح".

التي فيها يتكلم على لسان المسيح، مشيراً بذلك إلى ما يلقاه هو من أذى في مجتمعه، ويجعل الكلام كأن المسيح هو من يقوله:

بعد ما انزلوني سمعت الرياح

بعد نواحٍ طويل تسفُّ النخيل

و الخطا وهي تنأى إذن والجراح

والصليب الذي سمّروني عليه طوال الأصيل

لم تمتني وأنصتُّ كان العويل

يعبر السهل بيني وبين المدينة

 

تموز جيكور.. بدر شاكر السياب يقرأ اليأس العربي

يلبس السياب قناع تموز (أدونيس إله الخصب)، وهنا يكون معناه عكسياً فلا يدل على الخير والانبعاث، فعلى لسانه يفصح عن يأسه بالنهوض والانبعاث في الوطن العربي:

ناب الخنزير يشق يدي

ويتسرّب لظاه في كبدي

ودمي يتدفق ينساب

لم يغدُ شقائق أو قمحا

لكن ملحا

قصيدة أنشودة المطر ورمزية الظلم والثورة

تمتلئ قصيدة أنشودة المطر للشاعر بدر شاكر السياب بالرموز، فهو يرمز بالغربان والجراد إلى المستعمرين والمستغلين الذين يستبدون ويستغلون خير البلاد ولا يتركون شيئاً لأبنائه.

كما يرمز بالمطر إلى الثورة والتمرد، ويرى فيه المنقذ للعراق من الجوع والقهر (مشيراً بذلك إلى فترة الاحتلال الإنكليزي للعراق، وفترة حكم نوري السعيد)، فقال:

وفي العراق جوعْ

وينثر الغلالَ فيه موسم الحصادْ

لتشبع الغربان والجَرادْ

مطرْ .. مطرْ ... مطرْ ...

سيُعشبُ العراق بالمطرْ.

 

عبد الرزاق عبد الواحد يتقمص تجربة بوشكين

يتقمص الشاعر العراقي عبد الرزاق عبد الواحد تجربة الشاعر الروسي ألكسندر بوشكين، وهو الشاعر الذي كان لساناً للمظلومين والفقراء، دافع عنهم ووقف معهم.

وكانت والدة بوشكين حبشية، فكان له سمات الأفارقة فهو غليظ الشفاه أجعد الشعر، ويرمز لذلك عبد الرزاق بقوله لؤلؤة روسيا السوداء.

هنا يرمز بوشكين لمعانته هو، لوقوفه في صفوف الناس، فبوشكين أثار بقصائده المتمردة غضب القيصر ألكسندر الأول، وباستيحاء اسم بوشكين، يلخص عبد الرزاق واقعه، فيقول:

بوشكين يا لؤلؤة الروس السوداء

يا أغنية الحب الأولى

يا أغنية الغضب الأولى

 

يوسف غصّوب تتداخل عنده الأصوات والألوان والعطور

تتراسل الحواس عند الشاعر اللبناني يوسف غصوب، فيرى في الألوان موسيقى ونغم، كما يشتمها عطراً، فقال:

ومن الأشعة في غدائرها

نغمٌ على قسماتها استولى

عبقٌ يضوع وروعةٌ تجلى

 

صلاح لبكي يعيد رموز بودلير

ويرى لبكي كما يرى بودلير أن العلاقة بين العطر واللون والنغم علاقة متعمقة، وفي ذلك يقول:

تتهادى الأنغام فيها حيارى

غاديات العطر والأنداء

 

رمزيات قصيدة أحمد الزعتر عند درويش

لم تأتِ أغنيتي لترسم أحمد المرسوم بالأزرق

هو أحمد الكوني في هذا الصفيح الضيق

المتمزق الحالم

هو الرصاص البرتقالي البنفسجي الرصاصي

هو اندلاع ظهيرة حاسم

في يوم حرية.

فأحمد هو كل فلسطيني عربي قتل في مخيم تل الزعتر في مجزرة عام 1976 (إبّان الحرب الأهلية اللبنانية)، وأحمد  الكوني رمز يدل على أن أحمد باستشهاده أصبح أيقونة عالمية رغم أنه أتى من مخيمٍ صغير (الصفيح الضيق).

وفي قوله الرصاص البرتقالي والبنفسجي أي أن كل شيء في فلسطين يضحي ويقدم، والبرتقالي رمز  لبيّارات الليمون التي هي رمز فلسطيني يتغنى به الشعراء.

درويش يستحضر صورة بلاده القديمة والمستقبلية

يرمز درويش بالبئر القديمة إلى فلسطين، ويرمز بالمياه إلى الاستمرارية والحياة، ثم ينتقل ليشبه من ضحّوا بالفراشات كرمز للحرية والانطلاق.

وتمتلئ القصيدة بذكريات درويش القديمة، ولكن يرى أن القمر (الذي هو رمز لبلاده) مربوطٌ بين الحلم والحقيقة، لذلك يرى أن هذا القمر يدور فقط حول صورته الحقيقية دون أن يبلغها، فيقول في قصيدة "البئر":

 أَختارُ يوماً غائماً لأَمُرَّ بالبئر القديمةِ

رُبّما امتلأتْ سماءً، رُبَّما فاضَتْ عن المعنى وَعَنْ

أُمْثُولةِ الراعي، سأشربُ حفنةً من مائها

وأَقولُ للموتى حوالَيْها: سلاماً، أَيُّها البَاقونَ

حول البئر في ماء الفراشةِ. أَرفَعُ الطَيُّونَ

عن حَجَرٍ: سلاماً أيها الحَجَرُ الصغيرُ، لعلَّنا

كُنَّا جناحَيْ طائر ما زال يوجعُنا، سلاماً

أَيها القَمَرُ المُحَلِّقُ حَوْلَ صُورَتِهِ التي لن يلتقي

أَبداً بها.

هكذا.. يكون الشعراء قد استخدموا الرمز استخداماً جمالياً لإثراء قصيدتهم، إذ أنه الجسر الذي يربط بين الشعور واللاشعور ويعبر عن كوامن النفس الإنسانية.

كما كان الرمز ستاراً تخفّى وراءه الشاعر مخافة البطش والظلم والمعاداة، فتمكن من إيصال رسالته والتعبير عن أفكار دونما أذىً يطاله، وحتى الآن ما زال الشعراء يستعينون بالرمز في قصائدهم لكلا الغرضين السابقين.

القيادي الآن على واتس آب! تابعونا لكل أخبار الأعمال والرياضة