الكساد العظيم (1929-1939)

  • بواسطة: بابونج تاريخ النشر: الأحد، 24 نوفمبر 2019 آخر تحديث: الإثنين، 23 أغسطس 2021
الكساد العظيم (1929-1939)

قد تبدو معظم الأحداث التي جرت قبل ثمانين سنة غير مهمة الآن، خصوصاً الأحداث الاقتصادية منها. فالتي تُذكر في أحاديث الأجيال المتلاحقة عادة ما تتضمن الحروب والكوارث الطبيعية.

مع ذكر الأحداث الاقتصادية كشيء ثانوي أو اختصاصي كمجرد ملاحظات جانبية. لكن كونها لا تذكر كما سواها، فذلك لا يقلل أبداً من أهمية الأحداث الاقتصادية في التاريخ.

فالاقتصاد كان وما زال محركاً أساسياً للأحداث الاجتماعية والسياسية، وعنصراً هاماً جداً ومسبباً أساسياً للعديد من الحروب عبر التاريخ.

 

ما هو الكساد العظيم؟ وما هي أسبابه؟

يعرف الكساد العظيم (الكساد الكبير) بأنه أزمة اقتصادية عالمية عصفت بالاقتصاد العالمي في ثلاثينيات القرن العشرين، ومع أن الوقت الفعلي لبدايته كان مختلفاً من بلد لآخر ففي معظم الأماكن بدأ الأمر عام 1929 وصولاً إلى نهاية الثلاثينات.

كما معظم الأزمات الاقتصادية التي وصلت للعالمية، بدأ الكساد العظيم من الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت قوة اقتصادية كبرى حينها، مع صناعة تنمو بثبات وقدرة على استيعاب مهاجرين جدد مطلع القرن العشرين.

لكن على عكس معظم الأزمات الاقتصادية، فمسبب الكساد العظيم ليس محدداً تماماً. حيث أن طبيعة الاقتصاد حينها بالإضافة لعدم وجود التكنولوجيا الحديثة وقتها.

جعل الأمر أكثر تعقيداً للبحث عن أسبابه مما هو الحال في عصر الحوسبة حيث يتم كل شيء على الإنترنت ويتم أرشفته رقمياً.

أسباب الكساد العظيم

مع عدم معرفة الأسباب الدقيقة للكساد العظيم، ظهرت العديد من النظريات لتبرير الأحداث التي جرت مع اختلافات متعددة بينها. أهم هذه النظريات:

1. النظرية الكينيزية حول أسباب الكساد الكبير

تأخذ هذه النظرية اسمها من تفسير تبناه الاقتصادي البريطاني جون ماينارد كينيز (John Maynard Keynes) وفكرتها الأساسية تتلخص بالتالي:

للحفاظ على نسب بطالة متدنية (أي الحفاظ على معدلات عمل مرتفعة) على الحكومة أن تدخل في عجز الموازنة؛ (أي أن تصرف أكثر مما تجني) عندما يتباطأ الاقتصاد.

بذلك تعوض الحكومة الثغرة التي يخلقها تناقص الاستثمار من القطاع الخاص والتي تسبب الكساد عادة.

ومع بداية تأثير الكساد في الولايات المتحدة، قام الرئيس الأمريكي حينها فرانكلين روزفلت (Franklin Roosevelt) بعدة محاولات لإعادة إنعاش الاقتصاد الأمريكي.

لكن مع هذه المحاولات كانت موازنة الدولة تحافظ على توازنها إلى حد بعيد، مما جعل الاقتصاديين من المذهب الكينيزي يطالبون بصرف حكومي أكبر وتخفيض للضرائب.

لكن هذا لم يحدث بشكلٍ كافٍ حتى عام 1939 وبداية الحرب العالمية الثانية على الجبهة الأوروبية.

2. النظرية المالية حول أسباب الكساد العظيم

يعتبر أتباع هذا المذهب الاقتصادي أن التدفق المالي هو العامل الأساسي الذي يحدد حالة الاقتصاد وحالة النمو ويفرق بين الكساد والنمو الاقتصادي.

أبرز تفسيرات الكساد من أتباع المذهب المالي كانت من الاقتصاديين ميلتون فريدمان (Milton Friedman) و آنا شوارتز (Anna J. Schwartz).

اللذين وصلا إلى أن الكساد كان نتيجة حتمية لأزمة بنكية سابقة أودت بثلث البنوك العاملة في الولايات المتحدة آخذة معها 35% من السيولة النقدية.

هذا الأمر أدى إلى تقلص بمقدار 33% (التقلص هو عكس التضخم، فبدلاً من فقدان العملة لقيمتها وارتفاع الأسعار، في التقلص ترتفع قيمة العملة مع هبوط أسعار السلع).

يرى الاقتصاديون من هذا المذهب أن الكساد كان بالإمكان تفاديه عن طريق ضخ المصرف المركزي (والذي هو "الاحتياطي الاتحادي" أو “Federal Reserve” في الولايات المتحدة).

للمزيد من الأوراق النقدية للبنوك لمنع انهيارها أمام الطلب المتزايد على الأوراق النقدية من أصحاب المال.

دور "المعيار الذهبي" في الكساد العظيم

كما شرحنا في مقال سابق، فقد كانت الأوراق النقدية مرتبطة بالذهب لمدة طويلة من الزمن، ومع بداية الكساد كان القانون الأمريكي يقتضي أن يكون 40% على الأقل من التدفق المالي مدعوماً بقيمة ذهبية.

لكن وصولاً لعشرينيات القرن الماضي كان الاحتياطي الاتحادي قد شارف على الوصول إلى هذه النسبة، مما جعل ضخ كمية إضافية من المال في السوق لإيقاف الكساد أمراً غير ممكن وفق القوانين المعمول بها حينها.

تفسير النظرية الحديثة للكساد الكبير

تعتبر هذه النظرية هي الأوسع تبنياً اليوم من قبل الاقتصاديين كمسبب للكساد العظيم، وهي مزيج بين النظريتين الكينيزية والمالية.

فوفقاً لهذه النظرية؛ فالكساد نتج عن عجز الحكومة عن زيادة التدفق المالي لمواكبة الطلب المتزايد، بالإضافة لعدم مواكبة الحكومة للحاجة الماسة لتخفيض الضرائب الذي كان من شأنه أن يحمي السوق من انهيار معدلات الاستثمار، بالتالي تقلص التدفق المالي في السوق.

أسباب التمدد العالمي للكساد العظيم

عند الحديث عن الاقتصاد في ثلاثينيات القرن الماضي فالأمر مختلف عن حاله اليوم، ففي تلك الحقبة لم تكن "العولمة" كما اليوم وبطبيعة الحال لم تكن الشركات متعددة الجنسيات مسيطرة كما هي الحال في عالمنا المحكوم بالتكنولوجيا.

ونظراً لضعف الاتصال الاقتصادي مقارنة بحاله اليوم، فانتشار الأزمات الاقتصادية كان يحتاج أسباباً إضافيةً أهمها -فيما يخص الكساد العظيم- هي:

المعيار الذهبي

الأوراق النقدية كانت مرتبطة بالذهب بشكل كبير في تلك الحقبة، ليس في الولايات المتحدة وحدها، بل في معظم الدول الكبرى اقتصادياً حينها، هذا الارتباط أدى إلى تزامن الأزمة في العديد من الدول.

واضطرارها للتخلي عن المعيار الذهبي للنقد في سبيل إنقاذ اقتصاداتها. وبطبيعة الحال كانت الدول التي تخلت عن المعيار الذهبي أولاً أول المتعافين من الكساد مثل اليابان والمملكة المتحدة والدول الإسكندنافية.

التي تخلت عنه منذ عام 1931، بينما استمر الكساد لفترة أطول في الدول التي تأخرت في ذلك مثل فرنسا وبولندا وبلجيكا وسويسرا التي لم تتخل عنه حتى عامي 1935 و 1936.

انهيار التجارة العالمية

العديد من الاقتصاديين يلومون قانون التعرفة الجمركية الأمريكي على ذلك، فالقانون الذي أقر عام 1930 أدى إلى رفع التعرفة الجمركية من 25% حتى 50% على مدى أربعة أعوام.

مما أضعف حركة التجارة العالمية بشكل كبير وساهم في تمدد الكساد بجميع الاتجاهات جاعلاً منه أزمة عالمية.

التعافي من الكساد العظيم

بدأ الاقتصاد العالمي بالنهوض مجدداً بداية من عام 1933، ولو أن هذا النهوض كان بطيئاً للغاية حيث لم تعد الأمور إلى حالتها قبل الكساد إلى بحلول عام 1940.

ولا يوجد إجماع على سبب التعافي من الكساد، لكن يعتقد أن سياسات الرئيس الأمريكي روزفلت ساهمت جزئياً بذلك.

إلى جانب تدفق كميات إضافية من الذهب إلى الولايات المتحدة من أوروبا التي كانت تعاني من وضع سياسي متأزم مع اجتياح هتلر لبولندا وإعلان كل من فرنسا وبريطانيا الحرب على ألمانيا.

بالإضافة للأسباب غير المؤكدة، يُعتقد أن أكثر سببين أثرا في إعادة الاقتصاد إلى حالة النمو كانا؛ التغيير الذي حدث لدور المرأة حينها مع ازدياد مشاركة النساء في القوة العاملة وازدياد المسؤوليات التقليدية التي كانت ملقاة عليهن حينها.

والتوتر السياسي الموجود آنذاك، ولاحقاً البدء العلني للحرب العالمية الثانية الذي خفض نسب البطالة التي كانت قد وصلت في العديد من البلدان حتى 25% وإلى ما دون 10% بحلول عام 1940.

آثار الكساد العظيم حول العالم

كون الكساد كان عالمياً، والأسواق غير موحدة فعلياً، فقد تنوعت التأثيرات وفق البلد واقتصاده وعلاقاته التجارية، فبينما كانت الولايات المتحدة تعاني الكساد بحالته الأسوأ.

تجنبت الصين الكساد تقريباً كونها كانت تعتمد على معيار فضي -لا ذهبي- للمال مما عزلها عن الأزمة العالمية. وبالنسبة لآثار الكساد على الدول الأخرى فكانت كالتالي:

الكساد العظيم في استراليا

أدى اعتماد أستراليا الكبير على الصادرات الزراعية والصناعية إلى تأثرها بشكل كبير بموجة الكساد؛ مما أدى إلى وصول البطالة حتى 29% بحلول عام 1932.

لكن ازدياد الطلب على الصوف واللحم لاحقاً ساهم في إعادة الأمور إلى حالتها السابقة والتعافي من الكساد.

أثر الكساد في كندا

تعرضت كندا لأكبر تأثر بالكساد (بعد الولايات المتحدة) مع انخفاض عائدات الصناعة حتى 56% فقط عام 1932 مقارنة مع قيمتها عام 1929. ومع وصولها لقاع الكساد عام 1933 كانت معدات البطالة قد ارتفعت حتى 27%.

تأثير الكساد العظيم في تشيلي

وفقاً لعصبة الأمم (المنظمة الأممية السابقة للأمم المتحدة)، فقد كانت تشيلي أكثر البلدان تضرراً من الكساد كون 80% من عائدات الحكومة هناك تأتي من صادرات النحاس والنترات التي كانت تعاني انخفاضاً كبيراً في الطلب.

بالنتيجة انخفض الناتج القومي بمقدار 14% مع تراجع نشاط التنقيب بمقدار 27% وانهيار عائدات التصدير بمقدار 28%.

الكساد العظيم والصين

نظراً لبقائها على المعيار الفضي لعملتها، بقيت الصين بعيدة عن الكساد بشكل كبير، وإن كانت تأثرت جزئياً مع ازدياد الطلب على العملات الفضية الصينية في الولايات المتحدة، مما أجبر الصين على ترك المعيار الفضي عام 1935.

بالإضافة لذلك فقد ساهمت سياسات الحزب الوطني (الحاكم للصين حينها) في تخفيف تأثيرات الكساد بشكل كبير.

الأثر في فرنسا

بينما بدأت الأزمة الاقتصادية عام 1929 في معظم الأماكن الأخرى، لم تصل التأثيرات إلى فرنسا حتى عام 1931 وحتى حينها كانت محدودة للغاية نظراً للاكتفاء الذاتي الذي كان يتمتع به الاقتصاد الفرنسي.

فالبطالة لم تتجاوز معدل 5%. لكن مع قلة التأثيرات الاقتصادية فقد كان ذلك كافياً للتسبب بأعمال شغب كبيرة عام 1934 بالإضافة لازدياد كبير في قوة الأحزاب الشيوعية واليسارية في فرنسا.

ولم يقف هذا التمدد اليساري إلا مع بداية الحرب العالمية الثانية.

ألمانيا والكساد العظيم

تضررت ألمانيا بشكل كبير بالكساد، فقد أجبرت البنوك الأمريكية على إلغاء القروض التي كانت تقدمها لألمانيا لإعادة بناء اقتصادها الذي كان قد تضرر بشكل كبير بالحرب العالمية الأولى والتضخم الكبير عام 1924.

هذا التأثير الكبير تسبب بنمو التيارات الشيوعية والأخرى الوطنية بشكل مضطرد مما أدى إلى وصول الحزب الوطني الاشتراكي (الحزب النازي) وهتلر للحكم عام 1932.

المملكة المتحدة والكساد العظيم

عندما وصل الكساد إلى بريطانيا، لم تكن قد تعافت تماماً من التأثير المدمر للحرب العالمية الأولى على اقتصادها، مما تسبب بارتفاع البطالة حتى 20% (وصلت في المدن الصناعية الشمالية حتى 70%).

وانهيار صناعة السفن بمقدار 90% من حجمها السابق. بداية من منتصف الثلاثينيات بدأت البلاد بالتعافي مع نمو صناعة السيارات والصناعات الثقيلة خصوصاً في الجنوب.

تأثيبر الكساد على إيطاليا

تأثرت إيطاليا بالكساد بشكل كبير أدى إلى الاقتراب من انهيار الصناعة الثقيلة تماماً بحلول عام 1932. لكن مع تشكيل "مؤسسة إعادة الإعمار الاقتصادي" عام 1933 واستحواذ الحكومة على الشركات الكبرى.

بدأت إيطاليا بالتعافي من الكساد حيث كانت قد تعافت تماماً من الكساد بحلول عام 1935، بالإضافة لامتلاكها أكبر قطاع صناعي مملوك للحكومة في أوروبا (مع استثناء الاتحاد السوفييتي).

أثره في اليابان

لم يؤثر الكساد على اليابان بشكل مدمر فعلياً، فقد كان الانحدار الاقتصادي محصوراً ب8% فقط بين عامي 1929 و1931.

هذا التأثير توقف بشكل كبير مع اتباع اليابان لسياسات الإنفاق الحكومي الكبير (ما عُرف لاحقاً باسم السياسة الكينيزية في الاقتصاد).

مما أدى لزوال تأثيرات الكساد تماماً بحلول عام 1934 وتضاعف حجم الصناعات اليابانية خلال عقد الثلاثينات مع الانتقال من الصناعات الخفيفة (كالأنسجة) نحو الصناعات الثقيلة (كالسيارات).

تأثيره على هولندا

امتد الكساد في هولندا بين عامي 1931 و1937 كنتيجة لاحقة لانهيار سوق الأوراق المالية الأمريكي في عام 1929 إضافة لأسباب محلية أخرى.

لعبت السياسات الحكومية غير الفعالة والتأخر في التخلي عن المعيار الذهبي للعملة دوراً كبيراً في زيادة الكساد في البلاد؛ مما جعله يمتد بشكل أكبر منه في الدول الأخرى.

الأثر في الاتحاد السوفييتي

في تلك الفترة كان الاتحاد السوفييتي الدولة الشيوعية الوحيدة فعلياً، عدا عن علاقاته التجارية المحدودة للغاية مع الخارج مما حماه بشكل كبير من تأثيرات الكساد.

لكن عدا عن الكساد عانى الاتحاد من مشكلة كبيرة نتيجة الانتقال السريع والمفاجئ من المجتمع الريفي الزراعي نحو المدنية والصناعة، تمثلت هذه المشكلة في مجاعة قتلت الملايين من السوفيتيين في الأرياف الروسية والأوكرانية.

في النهاية... على الرغم من التشابه الكبير بين الكساد العظيم وأزمة الرهونات العقارية من حيث طريقة التمدد والتأثير المدمر على الاقتصاد العالمي.

فالفرق الكبير يأتي في الأسباب الواقعة خلف كل من الأزمتين بالإضافة لكون الكساد العظيم مدمراً أكثر بمراحل من سواه.

القيادي الآن على واتس آب! تابعونا لكل أخبار الأعمال والرياضة