أبو البقاء الرندي.. الشاعر الذي أبكى الأندلس

  • Qallwdallبواسطة: Qallwdall تاريخ النشر: الأربعاء، 17 يونيو 2020 آخر تحديث: الأحد، 31 أكتوبر 2021
أبو البقاء الرندي.. الشاعر الذي أبكى الأندلس
أبو البقاء الرندي.. الشاعر الذي أبكى الأندلس

الشعر من أهم أنواع الأدب، إن لم يكن أهمها، إذ إنه آكد للحفظ وأثبت في الذاكرة، وإن الشعر قد بلغ مبلغا صعبا مع ازدهار الحضارة الإسلامية في الأندلس، لما في بلاد الأندلس من طبيعة أخاذة لم يشهدها العرب قبل ذلك، فحين وفدوا إليها ألهمهم جمالها لكتابة الشعر وتذوق الجمال، حتى تكاد أنت المتلقي الذي لم يعش هذه الفترة أن تسمع أصوات زقزقة العصافير في الأبيات الشعرية وترى الألوان الزاهية في كل شطر، وقد جعلت هذه الطبيعة الشعراء يتعمقون في أشعار الغزل والحنين إلى المشرق، بل وابتكروا الموشحات الشعرية، وهو لون من الأدب لم يكن معهودا قبل ذلك، ومن أهم الشعراء الذين نبغوا في ذلك الزمان “أبو البقاء الرندي”، الذي أنشد الشعر في حب الأندلس ثم في رثائها، وقد لقبه المؤرخون بشاعر رثاء الأندلس.

 

نسبه وحياته

أبو البقاء الرندي.. الشاعر الذي أبكى الأندلس
أبو البقاء الرندي

هو أبو البقاء (وقيل أبو محمد وأبو الطيب) صالح بن يزيد بن صالح بن موسى بن أبي القاسم بن علي بن شريف النفري الرندي، ولد عام 651 للهجرة الموافق 1204 للميلاد، في مدينة إشبيلية وتحديدا في رندة الواقعة في الجنوب، والتي هو منسوب إليها، وعاش في مدينة سبتة حتى توفي عام 1285م، لم يكن أبو البقاء الرندي شاعرا فقط، بل كان لغويا وفقيها وحافظا للقرآن، وقد تولى أمور القضاء في مدينته، وألف النثر والشعر، وأكثر ما اشتهر به هو الرثاء الحزين ذو الطابع الملحمي.

 

مؤلفاته

ألف أبو البقاء الرندي بعض التصنيفات والكتب في علم العروض وفي الفرائض، وله مؤلفات عديدة مثل “الوافي في علم القوافي” و”جزءا على حديث جبريل” و”روضة الأندلس ونزهة النفس”، إلى جانب مشاركات قليلة في القضاء.

 

شعر أبي البقاء الرندي

أبو البقاء الرندي.. الشاعر الذي أبكى الأندلس
أبو البقاء الرندي

رغم إسهامات أبي البقاء الرندي المتنوعة، فإن أكثر ما اشتهر به هو شعره الواضح البليغ، فلم تكن ألفاظ شعره صعبة لا تفهم أو ركيكة لا تطلب، بل كانت لألفاظه جزالة ولمعانيه رقة، وقد تحدث في شعره عن كل شيء قد يحب المرء أن يسمع فيه شعرا، فكتب عن الإسلام والأمجاد والحروب، وكتب عن النفس ونقائها وخيرها وشرها، وقد تناول شعره المدح والفخر والرثاء والغزل والهجاء.

  • ومن أمثال ما كتب أبو البقاء الرندي في الفخر، ما كتبه في جيوش المسلمين وهجاء الكفار:

فيها الكُماة بنو الكُماة كأَنهم … أُسد الشَّرى بين القنا الخَطّار

مُتهلِّليــن لــدى اللِّقـــاء كأَنهـم … خُلِقت وجوههـم من الأَقمـار

من كلِّ ليثٍ فوق برقٍ خاطف … بـيـمـــيـنــه قــدر مــن الأَقــدار

من كـلِّ مـاضٍ قـد تقلَّـد مثلــه … فيصيب آجـالاً على الأَعمـــار

  • وقد كتب أبو البقاء الرندي أيضا في وصف الطبيعة الخلابة، ومدح الخضرة والصفاء، وتناول النباتات ذات الروائح العطرة الأخاذة، ومن ذلك ما قاله في وصف زهرة الريحان:

وأخْضر فُسْتُقِيُّ اللونِ غضٌّ

يروقُ بحسنِ منظره العُيونا

أغارُ على الترنجِ وقد حكاه

وَزادَ على اسمهِ ألفًا ونونا

أبو البقاء الرندي.. الشاعر الذي أبكى الأندلس
أبو البقاء الرندي
  • وكتب أبو البقاء الرندي في وصف الماء الجاري والأنهار العذبة والبحار الواسعة، ومن ذلك قوله:

 

البحر أعظم ممّا أنت تَحسِبه

مَن لم يرَ البحر يومًا ما رأى عجبا

طام له حَبَبٌ طاف على زورقٍ

مثل السماءِ إذا ما ملئت شُهُبا

 

ولم يكن شعر أبو البقاء الرندي كله مرحا مبتهجا، بل مر بجميع أغراض الشعر، فكتب في صحبة السوء التي لا تنفع في الدنيا ولا في الآخرة، وأصحاب المجلس الذين ينفضون ويختفون عند حاجة المرء إليهم، ومن قصيدته تلك:

ليس الأُخوة باللسان أُخُوَّة

فإذا تُراد أخوَّتي لا تنفعُ

لا أنت في الدنيا تُفرج كربة

عنِّي ولا يوم القيامة تشفعُ

 

رثاء الأندلس

لم يشتهر أبو البقاء الرندي بأبيات كما اشتهر بمرثيته العظيمة  “رثاء الأندلس”، وهي قصيدة حداد على الأندلس بعد غزو الكاثوليك واستيلائهم عليها، حيث ينعي الرندي سقوط الحضارة الإسلامية في الأندلس، ويروي ما حدث من تغير حال البلاد وغربة الإسلام في مدن ازدهرت فيها علوم الدين والدنيا على يد علماء المسلمين، ويشكو همه وحسرته ومصيبة المسلمين بفقدان الأندلس وخاصة مدينته الحبيبة “إشبيلية” والتي يشير إليها بـ”حمص” وهو اسم كان يعرفها المسلمون به، لأن جمالها وطبيعتها كانا يذكراهم بمدينة حمص الشامية في المشرق الإسلامي.

  • القصيدة

لـكل شـيءٍ إذا مـا تـم نقصانُ      فـلا يُـغرُّ بـطيب العيش إنسانُ

هـي الأمـورُ كـما شاهدتها دُولٌ      مَـن  سَـرَّهُ زَمـنٌ ساءَتهُ أزمانُ

وهـذه الـدار لا تُـبقي على أحد      ولا  يـدوم عـلى حـالٍ لها شانُ

يُـمزق  الـدهر حـتمًا كل سابغةٍ      إذا نـبت مـشْرفيّاتٌ وخُـرصانُ

ويـنتضي  كـلّ سيف للفناء ولوْ      كـان  ابنَ ذي يزَن والغمدَ غُمدان

أيـن الملوك ذَوو التيجان من يمنٍ      وأيـن  مـنهم أكـاليلٌ وتيجانُ؟

وأيـن مـا شـاده شـدَّادُ في إرمٍ      وأين ما ساسه في الفرس ساسانُ؟

وأيـن مـا حازه قارون من ذهب      وأيـن  عـادٌ وشـدادٌ وقحطانُ؟

أتـى عـلى الـكُل أمر لا مَرد له      حـتى قَـضَوا فكأن القوم ما كانوا

وصـار ما كان من مُلك ومن مَلِك      كما حكى عن خيال الطّيفِ وسْنانُ

دارَ  الـزّمانُ عـلى (دارا) وقاتِلِه      وأمَّ  كـسـرى فـما آواه إيـوانُ

كـأنما  الصَّعب لم يسْهُل له سببُ      يـومًا ولا مَـلكَ الـدُنيا سُـليمانُ

فـجائعُ  الـدهر أنـواعٌ مُـنوَّعة      ولـلـزمان  مـسرّاتٌ وأحـزانُ

ولـلـحوادث سُـلـوان يـسهلها      ومـا  لـما حـلّ بالإسلام سُلوانُ

دهـى  الـجزيرة أمرٌ لا عزاءَ له      هـوى  لـه أُحـدٌ وانـهدْ ثهلانُ

أصابها العينُ في الإسلام فارتزأتْ      حـتى خَـلت مـنه أقطارٌ وبُلدانُ

فـاسأل (بلنسيةً) ما شأنُ (مُرسيةً)      وأيـنَ (شـاطبةٌ) أمْ أيـنَ (جَيَّانُ)

وأيـن (قُـرطبة)ٌ دارُ الـعلوم فكم      مـن عـالمٍ قـد سما فيها له شانُ

وأين (حْمص)ُ وما تحويه من نزهٍ      ونـهرهُا الـعَذبُ فـياضٌ وملآنُ

قـواعدٌ كـنَّ أركـانَ الـبلاد فما      عـسى الـبقاءُ إذا لـم تبقَ أركانُ

تـبكي الحنيفيةَ البيضاءُ من أسفٍ      كـما بـكى لـفراق الإلفِ هيمانُ

عـلى  ديـار مـن الإسلام خالية      قـد أقـفرت ولـها بالكفر عُمرانُ

حيث المساجد قد صارت كنائسَ ما      فـيـهنَّ  إلا نـواقيسٌ وصُـلبانُ

حتى  المحاريبُ تبكي وهي جامدةٌ      حـتى الـمنابرُ ترثي وهي عيدانُ

يـا غـافلاً وله في الدهرِ موعظةٌ      إن كـنت فـي سِنَةٍ فالدهرُ يقظانُ

ومـاشيًا  مـرحًا يـلهيه مـوطنهُ      أبـعد  حمصٍ تَغرُّ المرءَ أوطانُ؟

تـلك الـمصيبةُ أنـستْ ما تقدمها      ومـا  لـها مع طولَ الدهرِ نسيانُ

يـا راكـبين عتاق الخيلِ ضامرةً      كـأنها فـي مـجال السبقِ عقبانُ

وحـاملين سـيُوفَ الـهندِ مرهفةُ      كـأنها فـي ظـلام الـنقع نيرانُ

وراتـعين  وراء الـبحر في دعةٍ      لـهم  بـأوطانهم عـزٌّ وسـلطانُ

أعـندكم  نـبأ مـن أهـل أندلسٍ      فـقد  سرى بحديثِ القومِ رُكبانُ؟

كم  يستغيث بنا المستضعفون وهم      قـتلى وأسـرى فما يهتز إنسان؟

مـاذا  الـتقاُطع في الإسلام بينكمُ      وأنـتمْ  يـا عـبادَ الله إخـوانُ؟

ألا  نـفـوسٌ أبَّـاتٌ لـها هـممٌ      أمـا عـلى الخيرِ أنصارٌ وأعوانُ

يـا  مـن لـذلةِ قـومٍ بعدَ عزِّهمُ      أحـال  حـالهمْ جـورُ وطُـغيانُ

بـالأمس كـانوا ملوكًا في منازلهم      والـيومَ هـم في بلاد الكفرِّ عُبدانُ

فـلو  تـراهم حيارى لا دليل لهمْ      عـليهمُ مـن ثـيابِ الـذلِ ألوانُ

ولـو رأيـتَ بـكاهُم عـندَ بيعهمُ      لـهالكَ  الأمـرُ واستهوتكَ أحزانُ

يـا  ربَّ أمّ وطـفلٍ حـيلَ بينهما      كـمـا  تـفـرقَ أرواحٌ وأبـدانُ

وطفلةً مثل حسنِ الشمسِ إذ طلعت      كـأنـما  يـاقـوتٌ ومـرجـانُ

يـقودُها الـعلجُ لـلمكروه مكرهةً      والـعينُ  بـاكيةُ والـقلبُ حيرانُ

لـمثل  هـذا يذوبُ القلبُ من كمدٍ      إن كـان فـي القلبِ إسلامٌ وإيمانُ

                                                                                      

هذا المقال أبو البقاء الرندي.. الشاعر الذي أبكى الأندلس ظهر لأول مرة على موقع قل ودل - حيث كل محتوى قيم