الظاهر بيبرس، حياته وأبرز فتوحاته

  • بواسطة: بابونج تاريخ النشر: الأحد، 24 نوفمبر 2019 آخر تحديث: الثلاثاء، 05 يوليو 2022

يعود بنا التاريخ إلى قصص مليئة بالتشويق، المعارك، الفتوحات والأحداث التي قلبت مجريات التاريخ، فالمماليك وحكمهم الذي دام منذ 1382 إلى 1516 كان جزءاً هاماً وكبيراً في تاريخ هذه الأمة والمنطقة، نقدم في مقالنا تعريفاً عن أهم حكامهم الظاهر بيبرس وإنجازاته داخلياً وخارجياً.

حياة الظاهر بيبرس ونشأته وما توفر في سيرته

ولد ركن الدين بيبرس العلائي البندقداري النجمي الملقب بأبي الفتوح في 620 للهجرة/1223 ميلادي في سهول القبجاق شمال البحر الأسود، اخُتلف في أصل الظاهر بيبرس، إذ أن المؤرخين كانوا يعدّون العبيد الذين أحضروا من القوقاز والقرم من الأتراك نسبة أن اسمه بيبرس؛ (بي) أي أمير و(برس) أي فهد باللغة التركية.

وبعض المؤرخين المعاصرين والكتّاب اعتبروه شركسيّ الأصل، قال الأديب الشركسي محي الدين قندور في روايته (الظاهر بيبرس أول السلاطين الشراكسة في مصر): "صبيٌ شركسيٌ صغير السن بعمر اثني عشر عاماً، تم اختطافه للعبودية من ساحل شركيسيا؛ الساحل الشرقي للبحر الأسود يمتد من أنابا في الشمال وحتى سوتشي في الجنوب على البحر الأسود أثناء السنوات الأولى من القرن الثالث عشر، ليباع الى مجمع مقاتلي المماليك البحرية في سورية".

وقد ذكر المؤرخ الإسلامي تقي الدين المقريزي أن الظاهر بيبرس وصل إلى حماه في القرن الثالث عشر الميلادي مع تاجرٍ للرقيق، وتم بيعه إلى الحاكم المنصور محمد، لكنه رفضه وأعاده إلى التاجر، وأكمل بيبرس مع التاجر حتى وصل إلى دمشق وباعه مجدداً بثمانمائة درهم، لكن الشخص الذي اشتراه أعاده إلى التاجر بسبب عيبٍ خلقيٍّ في إحدى عينيه، فاشتراه أمير دمشق علاء الدين البندقداري.

وحينما صودرت ممتلكات علاء الدين البندقداري نتيجةً لتمرده على الملك الصالح أيوب، كان من بينها بيبرس الذي انتقل إلى خدمة السلطان الصالح نجم الدين أيوب في القاهرة، فقام بإرساله مع بقية العبيد إلى جزيرةٍ لتدريبهم وتأهيلهم. أُعجب السلطان الأيوب بالظاهر بيبرس؛ فأعتقه وعيّنه قائد الحرس الشخصي له، ورأى فيه شاباً حكيماً؛ ومنحه لقب الإمارة، فأصبح بذلك أميراً.

أشار كاتب سيرة الظاهر بيبرس عز الدين إبراهيم ابن شداد في كتابه (تاريخ الملك الظاهر) أن السيرة لم تصل كاملة، بل فقد الجزء الأول منها المتعلق بنشأته ووالديه، ولم نحظ إلا بالجزء الثاني المتعلق بإنجازاته والحروب التي خاضها ووفاته.

الصفات الجسدية والشخصية التي كان الظاهر بيبرس يتمتع بها

عرّفنا كاتب سيرة الظاهر بيبرس ومعاصره محيي الدين ابن عبد الظاهر في كتابه (الروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر، الصفحة 74) الصفات الجسدية والشخصية للملك الظاهر بيبرس وهكذا عرفت أوصافه عن طريق معاصره محيي الدين ابن عبد الظاهر:

صفاته الظاهر بيبرس الجسدية

كان الظاهر بيبرس يتمتع بضخامةٍ بدنيةٍ تدل على قوة وبأس شديد، وقد كان عريض المنكبين مما أعطاه شكلاً ملفتاً، وأضاف صوته الجهوري ميزةً توحي بالقوة، كذلك له عينان زرقاوان في إحداهما نقطة بيضاء.

صفاته الشخصية

1. الشجاعة

كان الظاهر بيبرس شجاعاً، إذ أنه ما دخل معركةً أو قتالاً إلا وخرج منها منتصراً سليماً، ولعل توليه الحكم بالسيف كان إثباتاً لشجاعته.

2. العفو والحلم

كان بيبرس حليماً يعفو عند استطاعته، ويحسن إلى الناس، وأكبر دليل على عفوه وتسامحه كان عفوه عن الأمير علم الدين الحلبي الذي تمرد عليه وسجلها له التاريخ، وكان ولاه نيابة سلطنة حلب عام 659 للهجرة/ 1261 ميلادي، وكان يستمع إلى نصائح العلماء والشيوخ من حوله ويستجيب لمشورتهم.

3. العدل

كان الظلم قد أهلك الناس في زمانه؛ فعمل على تحقيق العدل بينهم، إذ كان يبحث في كل قضيةٍ تقدم إليه حتى يكشف حقيقتها، وكان أول ما فعله إلغاء الضرائب وطالب بدفع الزكاة من أصحاب الأملاك، وأقام داراً للعدل نصب عليها الأمير فارس الدين ليحكم بين الناس.

4. الوفاء

كان بيبرس يعتبر فارس الدين أقطاي أخاً له، وقد حزن على مقتله على يد عز الدين أيبك وشجرة الدر، فما كان منه إلا أن أوفى ديونه، وأقام له ضريحاً قريباً من باب قلعة الجبل في القاهرة، وتعتبر هذه وقفة وفاء مشهودة له.

الأحداث التاريخية التي شارك فيها الظاهر بيبرس قبل تقلده السلطنة

شارك الظاهر بيبرس قبل توليه الحكم في العديد من الأحداث التاريخية المهمة والتي كان لها الفضل في قلب مجرى التاريخ وإيقاف الغزو المغولي والحملات الصليبية، سنستعرضها بالترتيب إلى حين استلامه الحكم:

مشاركة الظاهر بيبرس في معركة المنصورة عام 647ه/1250م

بدأ نجم الظاهر بيبرس يسطع خلال مشاركته في معركة المنصورة في 1 رمضان عام 647ه/1250م حيث كان كبقية القادة إلا أنه أظهر شجاعة وحنكة بقيادة فرقته مما لفت الانتباه إليه فدعا ذلك الملك أيوب للاعتماد عليه بشكل كبير والتي حدثت في مصر بين الأيوبيين والحملة الصليبية السابعة بقيادة ملك فرنسا لويس التاسع، وكان السلطان الصالح نجم الدين أيوب من سلالة صلاح الدين الأيوبي حاكم الشام آنذاك.

1- استرداد السلطان أيوب بيت المقدس والاستعداد للحملة الصليبية الجديدة

بعد أن استطاع السلطان أيوب هزيمة الصليبين في معركة غزة واسترداد القدس عام 642ه/1244م بمساعدة الخوارزمية (سلالة مسلمة حكمت آسيا الوسطى وغرب إيران)، أثار ذلك حفيظة الصليبين الذين تعرضوا لهزيمةٍ كبرى جراء هذه المعركة، وأطلقوا عليها اسم (حطين الثانية)؛ لشدة وقعها عليهم، إذ خسر الصليبيون ثلاثين ألف مقاتل وثمانمائة أسير، ونجح الملك الصالح في استرداد قلعة طبريا وعسقلان، بذلك استطاع توحيد الشام ومصر تحت سلطته.

بدأت الدعوات في أوروبا إلى ضرورة إرسال حملة صليبية جديدة من أجل استرداد القدس، واستجاب لهذه الدعوات ملك فرنسا لويس التاسع، فعقد اجتماعاً مع ملوك أوروبا للتباحث بالأمر حضره رجال الكنيسة مع البابا (إنوسنت الرابع)، وأخذ منهم العهود في المشاركة بالحملة الصليبية، ثم توجه إلى قبرص على متن سفينة أبحرت من ميناء (يجور) في جنوب فرنسا، وبقي في قبرص ثمانية أشهر.

2- توجه السلطان إلى مصر وبدء الاستعداد للمعركة

في هذه الأثناء أخبر الإمبراطور الألماني (فريدريك الثاني) السلطان أيوب بأمر الحملة؛ فقد كانت تربطه بالسلطان علاقة جيدة، وبدأ السلطان الموجود في الشام استعداده لملاقاة الصليبين في الحرب، وتوجه إلى مصر رغم شدة مرضه محمولاً على الأكتاف.

وصل إلى بلدةٍ صغيرةٍ تسمى (أشموم طناح) -المعروفة حالياً باسم (أشمون الرمان)- في محافظة دقهلية في مصر فجعل منها معسكراً لجنوده، عمد السلطان إلى تحصين دمياط لعلمه أنها كانت هدف الصليبين في حملاتهم السابقة، فعهد إلى طائفة بني كنانة حمايتها والدفاع عنها، وأرسل إليها جيشاً بقيادة الأمير فخر الدين يوسف ليحول دون نزول الصليبين إلى البر.

3- وصول الحملة وبدء معركة المنصورة

وصلت الحملة الصليبية إلى شواطئ النيل في دمياط عام 647ه/1249م، وحدثت بعض المناوشات بين المسلمين وبينهم، واستطاعوا النزول إلى البر رغم ذلك، فانسحب الأمير فخر الدين بجيشه، متجهاً إلى (أشموم طناح)، ودخل الصليبيون إلى دمياط دون مقاومة، اضطر السلطان إلى نقل معسكره إلى مدينة المنصورة بعد استيلاء الصليبين على دمياط، ووصل إليها العديد من المجاهدين من بلاد الشام والمغرب العربي للمشاركة في القتال.

قام المسلمون بحصار الصليبين في دمياط وقطع الإمدادات عنهم، كما انتظر لويس التاسع وصول أخيه الثالث كونت دي بواتيه، فعقدوا اجتماعاً لوضع خطة للقتال واتفقوا على المضي باتجاه القاهرة؛ فتحركت الحملة من دمياط ووصلت إلى قناة أشموم التي تعرف اليوم باسم (البحر الصغير).

4- وفاة الملك أيوب وهزيمة الصليبين على يد الظاهر بيبرس

توفي الملك الصالح نجم الدين أيوب بسبب مرضه في 15 شعبان 647ه/22 تشرين الثاني 1249م، فتولت زوجته شجرة الدر إدارة شؤون البلاد في مصر وإدارة الحرب، واستطاعت أن توقف زحف الصليبين بعض الوقت، ثم أرسلت إلى ابن الملك الصالح (توران شاه) تحثه على القدوم ومغادرة حصن كيفا في تركيا، وطلبت منه العودة إلى مصر لاعتلاء العرش.

كان على الصليبين اختيار المضي إما من قناة أشموم أو فرع دمياط لإتمام مهمة حملتهم، فاختار الملك لويس التاسع عبور القناة، واقتحم الصليبيون بقيادة (روبرت أرتوا) أحد أبواب مدينة المنصورة وقتلوا الكثير من المصريين، ووصلوا إلى أبواب قصر الملك وكان الناس يقاتلونهم بالحجارة، ثم وصلت فرقة من المماليك البحرية بقيادة (بيبرس البندقداري)، وقامت بمهاجمة الصليبين وقُتل جنود الفرقة مع قائدهم (روبرت أرتوا)، أعاد المصريون ترتيب صفوفهم وقاموا بمهاجمة معسكر الصليبين وكبدوهم خسائر فادحة.

5- وصول توران شاه إلى مصر وانتهاء المعركة

وصل توران شاه ابن الملك أيوب إلى مصر، وتولى قيادة الجيش ووضع خطة لإجبار لويس التاسع على الاستسلام، فأمر بنقل عدة سفن مفككة على ظهور الجمال وإنزالها خلف خطوط الصليبين في النيل، فتمكن بذلك من الاستيلاء على سفن الصليبين وأسر من فيها؛ أدى ذلك إلى تفشي الأمراض والمجاعة في صفوفهم، مما أجبر الملك لويس على طلب هدنة وتسليم دمياط إلى الملك توران شاه مقابل أن يأخذ الصليبيون بيت المقدس وساحل بلاد الشام، فرفض الملك ذلك وواصل الحصار.

حاول الصليبيون الانسحاب من دمياط دون معرفة الجيش المصري بذلك، لكنهم تعقبوهم حتى وصولهم إلى مدينة فارسكور (ثاني أكبر المدن في محافظة دمياط)، وقتلوا الكثير منهم وأسروا العديد من بينهم الملك لويس التاسع، حيث أُسر في قرية (منية عبد الله) الواقعة شمال مدينة المنصورة في دار القاضي (فخر الدين لقمان) وبقي فترةً من الزمن، بعدها أُفرج عنه لقاء فديةٍ ماليةٍ كبيرة وجلاء الصليبين عن دمياط واستمرار الصلح بينهم مدة عشر سنوات.

6- مقتل توران شاه وتولي عز الدين أيبك الحكم

تولى توران شاه الحكم مكان أبيه، وإثر انتهاء معركة المنصورة بدأ بمطالبة شجرة الدر بإعادة أموال أبيه ومجوهراته، فأخبرته أنها أنفقتها على الحرب ولكنه لم يصدقها، فهربت إلى فلسطين خوفاً منه، كما أنه هدد أمراء المماليك وبدأ يفكر بالتخلص منهم. ذكر الكاتب محمود شلبي في كتابه (حياة الملك الظاهر بيبرس، الصفحة 68) وقائع مقتل توران شاه على يد المماليك:

(في ليلة كان الملك توران شاه تحت تأثير الخمر يتفاخر بالنصر الذي حققه في معركة المنصورة ويعزوه لنفسه وبدأ بالحديث عما سيفعله بالمماليك وأنه سيقطع رؤوسهم بالسيف فغضب الظاهر بيبرس وفارس الدين أقطاي من حديثه وقاموا بمهاجمته وجرح بيبرس عنقه بالسيف وقال: "نحنا اصطلينا بنارها، وقاتلنا الأعداء وقهرناهم ليكون جزاؤنا منك أيها الغادر قطع الرقاب.. والله لا يهدأ لنا بال حتى نتمم عليك"، استطاع توران شاه الهرب إلى أعلى برج الخشب في فارسكور وألقى بنفسه في النيل فقفز فارس الدين أقطاي خلفه وأجهز عليه وبذلك انتهى حكم الدولة الأيوبي).

تولي المماليك الحكم.. وانتقاله من سلطان لآخر

أعلنت شجرة الدر توليها الحكم بعد وفاة توران شاه، فبدأت بذلك فترة حكم المماليك وأصبحت أول سلاطينهم، لكنها لم تستطع البقاء في الحكم أكثر من ثمانين يوماً، حيث واجهت معارضةً شديدةً وخرجت مظاهراتٌ ضدها في مصر استنكاراً لتولي امرأة الحكم، كما عارض العلماء ولاية المرأة للحكم أيضاً.

في هذه الأثناء ثار الأيوبيون في الشام على مقتل توران شاه وكيفية استيلاء المماليك على الحكم واعتلاء شجرة الدر العرش، فبدأت تفقد السيطرة على الشام، كما رفضت الخلافة العباسية في بغداد الإقرار بحكم المماليك، وكتب الخليفة العباسي إليهم: "إن كانت الرجال قد عدمت عندكم، فأعلمونا حتى نسير إليكم رجلاً".

واجهت دولة المماليك رفض شرعية الدولة داخلياً، إقليمياً ودولياً، فاضطرت شجرة الدر أن تتزوج من أحد كبار المماليك (عز الدين أيبك) وتنازلت له عن الحكم، ولكنها كانت من تدير أمور الدولة، فقد خضع زوجها لسيطرتها ونفذ مطالبها، حتى أنها أرغمته على هجر زوجته الأولى وابنه علي، وساعدته في التخلص من منافسه زعيم المماليك البحرية فارس الدين أقطاي حيث قام عز الدين أيبك بمساعدة من بعض حاشيته باستدراج أقطاي إلى قلعة الجبل وقتله فقد كان له طموح في الوصول إلى الحكم.

هرب المماليك البحرية إلى الشام مع الظاهر بيبرس ومقتل عز الدين أيبك

بعد مقتل فارس الدين أقطاي على يد عز الدين أيبك وشجرة الدر، خاف المماليك البحرية؛ هم المماليك الذين عاشوا في جزيرة الروضة في القاهرة، من بطش الملك الجديد وهربوا إلى بلاد الشام وعلى رأسهم الظاهر بيبرس، بعد وصولهم إلى الشام واستقرار أمور السلطة في يد عز الدين أيبك، اكتشفت شجرة الدر أنه يريد التفرد في الحكم والخروج عن سيطرتها.

وبدأ عز الدين أيبك بالترتيب للزواج من ابنة (بدر الدين لؤلؤ) الأيوبي الذي كان يحكم الموصل آنذاك، فغضبت منه واستدرجته إلى مخدعها في القلعة، وحين وصوله هجم عليه مجموعة من المماليك وقاموا بقتله، وأشاعت أنه مات فجأة، لكن أنصار أيبك لم يصدقوا، فقبضوا عليها وأرسلوها إلى زوجة أيبك الأولى التي أمرت أن تُضرب شجرة الدر، فقامت جواريها بضربها بالأحذية الخشبية ورموها من سور القلعة، وتركت عدة أيامٍ دون أن تدفن.

تولي سيف الدين قطز الحكم وعودة الظاهر بيبرس إلى مصر

تسبب الفراغ السياسي بالفوضى في البلاد، فوجد زعيم المماليك سيف الدين قطز نفسه مسؤولاً عن ترتيب أمور الدولة، وأحضر علي ابن عز الدين أيبك وأجلسه على العرش وهو بعمر الخامسة عشر، وتولى هو الحكم الفعلي، في هذه الأثناء قام المغول بالقضاء على الخلافة العباسية في بغداد وسيطروا على الشام وفلسطين، ثم أرسلوا تهديداً إلى مصر.

وجد حكماء مصر أنه لا يمكن التصدي لهذا الغزو ويحكمهم صبي عمره خمسة عشر عاماً، فطلبوا من قطز استلام السلطة، بذلك انتقل الحكم بشكل رسمي له، فأرسل بطلب الظاهر بيبرس وسلمه منصب الوزارة؛ القضاء في مصر عام 1620م.

أرسل باتو خان قائد المغول الذين استقروا في بلاد الشام رسلاً يحملون كتاباً فيه تهديد، إما الاستسلام أو الدمار، فعقد الملك اجتماعاً مع علماء الدولة وعزموا على مواجهة العدو، وأشار الظاهر بيبرس (القائد العام للجيش آنذاك) على الملك بقتل الرسل والخروج لملاقاة جيش المغول بقيادة كتبغا؛ نائب هولاكو في بلاد الشام، فوافق على رأيه.

معركة عين جالوت 658ه/1260م

وقعت معركة عين جالوت في 3 أيلول/سبتمبر عام 1260م، حيث خرج السلطان قطز برفقة الظاهر بيبرس مع جيشه لملاقاة المغول، واجتازوا عكا ووصلوا إلى الجبل الذي يعلو عين جالوت (مدينة صغيرة تقع بين بيسان ونابلس شمال فلسطين)، قام بيبرس بوضع استراتيجية المعركة، حيث استخدم تكتيكاً كان ناجحاً حينها، إذ صعد مع فرقته إلى قمة الجبل وانتظروا طوال الليل على خيولهم ومعسكر المغول قريبٌ منهم.

في اليوم التالي واصل جيش المغول زحفه واقترب من معسكر المسلمين وبدأ بصعود الجبل، فترجّل بيبرس عن حصانه مستغلاً تعب وإجهاد العدو في صعود الجبل وقاتلهم حتى استطاع قتل قائدهم كتبغا، وحمل رجاله رأس كتبغا إلى السلطان قطز، استمر بيبرس في قتالهم حتى انتهت المعركة بانتصار المماليك على المغول، ودخل الظاهر بيبرس إلى دمشق ثم تبعه السلطان مع جيشه.

وفاة السلطان قطز وتولي الظاهر بيبرس الحكم

تحدث الكاتب محيي الدين ابن عبد الظاهر في كتابه (الروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر، الصفحة 67) عمّا حدث بين السلطان قطز والظاهر بيبرس.. (كان السلطان قطز قد وعد الظاهر بيبرس أن يوليه حكم حلب، ولكنه نكث بوعده وأصبح معتداً بنفسه، وبعد فترةٍ وجيزةٍ كان السلطان قطز عائداً إلى مصر، فطلب بيبرس أن يحادثه بأمر وعند ابتعادهما عن الحرس استل بيبرس سيفه وقتل قطز دون أن يستطيع أحد الجنود الاقتراب وإنقاذه.

ثم جاء قائد جيش المماليك (أقطاي المستعرب)؛ فارس الدين أقطاي ابن عبد الله النجمي كان قد عينه سيف الدين قطز نائباً للسلطنة في مصر، وسأل عن القاتل فأجابه بيبرس أنه الفاعل فقال له: "يا خوند (سيد القوم) اجلس أنت في مرتبة السلطة"، وبذلك تقلد بيبرس منصب الملك في 17 ذي القعدة 658 للهجرة، ولقب بالملك القاهر، ولكنه علم أنه اسمٌ غير مبارك؛ فسميّ بالملك الظاهر ركن الدين واعتلى عرش المماليك.

سياسة حكم الظاهر بيبرس

بدأت مرحلةٌ سياسيةٌ جديدة في تاريخ دولة المماليك، استطاع بيبرس أن يفهم أصول الحكم ومتطلبات الدولة الإدارية والسياسية والعسكرية.

وطدّ بيبرس حكمه وقام ببناء القنوات، تحسين الموانئ، وأنشأ خدمة بريدية منتظمة وسريعة بين القاهرة ودمشق، وهي خدمة لا تتطلب سوى أربعة أيام، كما أنه بنى المسجد الكبير والمدرسة التي تحمل اسمه في القاهرة.

السياسة الداخلية التي اتبعها الملك الظاهر بيبرس

1. القضاء على الخلافات الداخلية

ذكر الكاتب محمود شلبي في كتابه (حياة الملك الظاهر بيبرس، الصفحة 121) ما فعله الظاهر بيبرس بتمرد الأمير علم الدين سنجر الحلبي... (انتشر خبر مقتل الملك المظفر قطز ووصل إلى حاكم دمشق الأمير التركي علم الدين سنجر، الذي ولاه الملك قطز على دمشق حين دخوله إليها بعد معركة عين جالوت، فقام بتنصيب نفسه السلطان وخُطب له في المنابر ولقب بالملك المجاهد، فأرسل إليه الملك بيبرس الأمير جمال الدين المحمدي يدعوه إلى الرجوع عما يفعله وأرفق معه 125.000 درهماً، أنعاماً، ذهباً، ومجوهراتٍ نفيسةٍ، فأعلن الأمير علم الدين سنجر أنه نائب من نواب الملك الظاهر، ولكنه سرعان ما عاد لمخالفته).

جهّز الملك بيبرس جيشاً بصحبة الأمير علاء الدين أيدكين البندقداري، وتوجهوا من مصر إلى دمشق ووصلوا إليها في 13 صفر 659 للهجرة، فخرج الأمير سنجر الحلبي لملاقاتهم، وبدأ القتال حتى هزم الأمير سنجر وهرب إلى داخل قلعة دمشق واختبأ بها خلال الليل، ثم اتجه صباحاً إلى جهة بعلبك فأمسك به بعض العساكر من جيش بيبرس وتم أخذه إلى مصر وسجن بها فترة من الزمن، ثم أطلق الملك بيبرس سراحه وسلمه ولاية حلب.

استقر حكم دمشق في يد الظاهر بيبرس وخُطب له في المنابر وبقي الأمير علاء الدين أيدكين لتدبر أمورها، ثم كلّف الملك بيبرس الأمير علاء الدين طيبرس الوزيري الحاج، بولاية دمشق.

2. الاهتمام بشرعية الحكم

حلّ الملك بيبرس مشكلة الشرعية التي تسببت بالقضاء على من سبقه من حكام المماليك ورأى أن عليه تثبيت حكمه في الدولة عن طريق إضفاء الشرعية على حكمه، إذ كانت السلطة ما زالت بحاجة لاستكمال عناصرها، وبما أنه لا يستطيع كسب شرعية حكمه بالقوة؛ لذا كان لابد من شرعية رمزية من أهمها الرمزية الدينية، فأعاد إحياء الخلافة العباسية من خلال أحد أحفاد العباسيين وسنشرح ذلك لاحقاً. .

3. الاهتمام بالأماكن المقدسة

  • الحرم النبوي الشريف

اهتم الظاهر بيبرس بعمارة المسجد، فأرسل علم الدين الغوري للإشراف عليه، كما أنه أرسل كسوة (رداء الكعبة) للكعبة.

  • المسجد الأقصى

في عام 659 للهجرة وصل خبر تداعي قبة الصخرة في بيت المقدس وأنها تكاد تنهار للظاهر بيبرس، فأمر بتجهيز العدد ومستلزمات ترميمها في دمشق وتم إرسالها إلى بيت المقدس، ثم وصل كتاب إلى الظاهر بيبرس عام 660 للهجرة يبلغه بإتمام ترميم القبة وما حولها.

  • مسجد الأزهر

ذهب الظاهر بيبرس في 18 ربيع الأول عام 665 للهجرة إلى مسجد الأزهر في القاهرة وصلى فيه، ثم أمر بترميمه والاهتمام بجماله، كما أعاد خطبة الجمعة إليه بعد أن ألغيت بسبب التوجه السياسي لبعض الخطباء في الأزهر (التحريض على الجهاد ضد المغول)، وعين قضاة يمثلون الأربع مذاهب في الشريعة الاسلامية، وهم: قاضي الشافعية تاج الدين بن الأعز، قاضي الحنفية شمس الدين بن سلمان، قاضي المالكية شرف الدين السبكي وقاضي الحنابلة شرف الدين المقدسي، فقد كانت شريعة المذهب الشافعي فقط تطبق آنذاك لأنه كان المذهب الأكثر شيوعاً في مصر.

4. بناء المدرسة الظاهرية في مصر

ذكر الكاتب محمود شلبي في كتابه (حياة الملك الظاهر بيبرس، الصفحة 183) إنشاء الظاهر بيبرس مدرسةً لتدريس تعاليم الدين عام 662 للهجرة في منطقة بين القصرين في القاهرة، وعيّن: القاضي تقي الدين بن رزين لتدريس تعاليم المذهب الشافعي، ومجد الدين عبد الرحمن بن العديم لتدريس تعاليم المذهب الحنفي، والشيخ شرف الدين الدمياطي بن خلف الحافظ لتعليم أصول الحديث وتفسيره.

امتدح الشعراء الملك والمدرسة التي أقامها ومنهم السراج عمر الوراق، قائلاً:

مليكٌ له في العمل حبٌ وأهله .. فلله حبٌ ليس له ملام

فشيدها للعلم مدرسة غدا .. عراق إليها شيق وشآم

ولا تذكرن ملكاً وبيبرس مالكاً .. وكل مليك في يده غلام

كما كتب الأديب أبو الحسن الجزار:

ألا هكذا يبني المدارس من بنى .. ومن يتغالى في الثواب وفي الثنا

لقد ظهرت للظاهر الملك همة .. بها اليوم في الدارين قد بلغ المنا

تجمع فيها كل حسن مفرق .. فراقت قلوباً للأيام وأعينا

5. بناء القلاع وتجديدها

  • تجديد الحصون

قام المغول بتدمير الحصون والأسوار حين استولوا على بلاد الشام، منها: قلعة دمشق، قلعة الصلت، قلعة عجلون، قلعة صلخد، قلعة بصرى، قلعة بعلبك، قلعة الصبيبة، قلعة شيزر وقلعة شميميس، فاهتم الملك الظاهر بإعادة بنائها وترميم المهدم منها وتجهيزها بالأسلحة وتنظيف خنادقها، كما أرسل إليها جنوداً من المماليك.

  • حصن الجزيرة

كان الملك الصالح أيوب قد بنى حصن الجزيرة وأنفق الأموال الطائلة عليه وجهزه حتى أصبح من أحصن الحصون، فهدمه الملك عز الدين أيبك دون سبب واضح، أمر الملك بيبرس بإعادة ترميم حصن الجزيرة، وأرسل إلى الأمير جمال الدين ابن يغمور يحثه على إعادة إعماره، فأصلح القاعات المهدمة وأعادها إلى ما كانت عليه سابقاً، ووزعت أبراج الحصن على الأمراء، فأعطي برج الزاوية إلى الأمير سيف الدين قلاوون، الثاني إلى الأمير عز الدين الحليّ، الثالث إلى الأمير عز الدين أوغان وبرج الزاوية الغربي تولاه الأمير بدر الدين بيسري الشمسي، وأمرهم أن يعيشوا فيها وسلمهم مفاتيح الأبراج.

  • بناء مشهد النصر في عين جالوت

استحق النصر الذي حققه المسلمون في معركة عين جالوت الاحتفاء، فأمر الظاهر ببناء نصبٍ تذكاريٍ في المكان الذي جرت فيه المعركة وسماه (مشهد النصر)، وقد ذكر علماء الآثار أنه النصب التذكاري الأول من نوعه في التاريخ الإسلامي ودائماً يكون النصر والمنجزات العظيمة باسم القائد حيث ينسى التاريخ اسماء من صمم ومن قاتل فيضيع اسمه في صفحات التاريخ ويبقى المجد للقائد آنذاك.

إعادة إحياء الخلافة العباسية في مصر وانتقال حكم الظاهر بيبرس إلى دمشق

تحدث الكاتب محمود شلبي في الصفحة 125 من كتابه (حياة الملك الظاهر بيبرس)؛ عن الأحداث التي تبعها انتقال حكم الظاهر بيبرس إلى دمشق، منها: (جاءت مجموعة من العرب من العراق إلى مصر ومعهم شخص أسمر يدعى (أحمد)، وقد ادعوا انه ابن الإمام الظاهر بالله وأنه خرج من دار الخلافة في بغداد، فعقد الظاهر بيبرس مجلساً في 9 محرم 661 للهجرة / 22 نوفمبر 1262 ميلادي حضره كبار الأمراء وشهدوا أنه ينتمي إلى نسب الخليفة، فبايعه الملك بيبرس والناس بالخلافة ولقب بالمستنصر بالله، بعد المبايعة قام الخليفة بتقليد الظاهر بيبرس حكم البلاد الإسلامية وما سيفتحه منها، توجه بعدها الملك بيبرس إلى الشام مع جيشه والخليفة الجديد؛ وذلك بهدف تجهيز عودته إلى بغداد).

دخل الملك الظاهر مع الخليفة إلى دمشق واحتفل أهلها بوصولهم وأعدوا لهم استقبالاً حافلاً، ثم جاء صاحب حماة الملك المنصور وصاحب حمص الملك الأشرف وقدما له الطاعة وتم تجهيز قافلة لمرافقة الخليفة المستنصر بالله في طريق عودته إلى بغداد حتى تكون مقراً للخلافة من جديد لكنه قبل أن يصل اقترب بطريقه من أحد معسكرات التتار على ساحل نهر الفرات دون دراية منه فقاموا بمهاجمته وقتلوه.

سياسة الظاهر بيبرس الخارجية

1. الغزو المغولي

تنبه الملك الظاهر إلى الخطر المحدق ببلاد الشام، إذ أن المغول (التتار) كانوا في الشرق على ضفاف الفرات، والصليبين (الفرنجة) كانوا في الغرب على سواحل بلاد الشام وكان لابد من محاربتهم، فتوجه إلى قتال المغول أولاً.

انسحب المغول بعد هزيمتهم في معركة عين جالوت إلى بلاد ما وراء النهر (الفرات) (أوزباكستان، كازاخستان وقيرغيزستان) وتمركزوا فيها، وبقي الظاهر بيبرس متنبهاً إليهم؛ لذا قرر تحصين البلاد وتمكينها للتصدي لأي هجوم محتمل منهم، وذلك بإرسال الجنود إلى القلاع والحصون وإمدادهم بالأسلحة اللازمة، كما أنه استغل وجود النزاعات في صفوف المغول بين بركة خان (حاكم القبجاق)؛ منطقة تقع شمال بحر قزوين وهولاكو (قائد المغول في فارس) وابنه أبغا وريثه.

فتحالف الملك بيبرس مع بركة خان عام 640 للهجرة/ 1262 ميلادي واستطاع بذلك أن يوقف هجمات المغول من جانبه، كما استمر في محاربتهم وخرج مع جنوده وعبروا نهر الفرات وهزموا المغول في الأراضي العراقية وحرروا المناطق المحاصرة، ثم عاد إلى دمشق ومعه العديد من الأسرى المغول وذهب بهم إلى مصر.

2. حروب الظاهر بيبرس مع الصليبين (الفرنجة)

واجه صلاح الدين الأيوبي الصليبين قبل سبعين عاماً من ظهور الملك بيبرس ولكن بقيت الحملات مستمرة، وكانت عكا محميةً صليبية، كذلك يافا، طرابلس، صور، صيدا، صافيتا ودريكيش، وقد تمكن الظاهر بيبرس من فتحها عام 638 للهجرة/ 1260 ميلادي والقضاء على الصليبين فيها، كما نجح في تحرير العديد من المدن كالخليل وقيسارية جنوب مدينة حيفا وأرسوف شمال يافا، وأخذ الأسرى إلى الكرك في الأردن.

شنّ الملك بيبرس من عام 1265 إلى 1271 غارات سنوية تقريباً ضد الصليبيين، ففي عام 1265 تلقى كتاباً من الفرسان الصليبين أفاد باستسلام أرسوف، وفي تموز/يوليو 1266 استولى على بلدة صفد من حامية فرسان الهيكل بعد حصار شديد دام عامين، ثم تحول بيبرس نحو يافا التي استولى عليها دون مقاومة، واستولى على قلعة الحصن واللاذقية وجبلة.

3. حرب الظاهر بيبرس في أرمينيا

ذكر الكاتب ابن عبد الظاهر في كتابه (الروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر، الصفحة 327) الأحداث التي تلتها سيطرة الظاهر بيبرس على أرمينيا... (عقد ملك الأرمن هيثوم بن قسطنطين تحالفاً مع المغول ضد المسلمين وشجعهم على قتالهم، وبذلك شكلوا خطراً على الحدود الشمالية للدولة؛ لذا أمر بيبرس الجيش في حماه وحمص بالتوجه لمعسكر الأرمن في قلعة صرفند كار (سروندكار) "قلعة حصينة على صخرة بالقرب من جيحان؛ مدينة تركية بالقرب من أضنة".

فهجم جيش الظاهر على معسكر الأرمن وأسروا أميراً من أمرائه وقتلوا منهم العديد، فأرسل ملك أرمينيا كتاباً إلى التتار (المغول) في فارس الذين كانوا في فارس وأنطاكية، فلبوا نداءه وأرسلوا جندهم للقتال، اشتدت معركة أرمينيا الصغرى بين الجيشين، وانتهت في 664 للهجرة/ 1266 ميلادي بنصر جيش الظاهر بيبرس وتراجع المغول).

التفاوض بين بيبرس وملك أرمينيا

عاود ملك أرمينيا محاولته، فأرسل بطلب للتفاوض مع الظاهر بيبرس، فطالبه بالدخول في طاعته ودفع الجزية ولكنه رفض وبدأ بتطبيق سياسة جديدة على المماليك في مصر، إذ منع تصدير الأخشاب والحديد من آسيا إليهم، مما أغضب الملك الظاهر وبدأ بجمع جيشه للقتال، فاتجه هيثوم إلى تبريز؛ أحد أهم المدن في إيران التي كانت تحت حكم أباقا (ابن هولاكو) وذلك بعد رفض المغول مساندته.

في هذه الأثناء اتجه جيش الظاهر بيبرس بقيادة الأمير قلاوون وصاحب حماة المنصور ووصلوا إلى سهل قليقية في 21 ذو القعدة 664 للهجرةـ / 24 آب 1266م، واشتدت المعركة بين الجيشين، انتصر فيها جيش المسلمين وأسروا ليفون ابن ملك أرمينيا وعادوا إلى حلب.

تفاوض ملك أرمينيا مع الملك الظاهر وتنازل له عن بعض الحصون المهمة كدربساك، بهنسا، مرزبان ورعبان ووعد بإطلاق سراح الأمير علاء الدين الأشقر الذي اعتقله المغول حين هجموا على حلب مقابل إطلاق سراح ابنه ليفون، وقد تم الاتفاق على هذه الشروط وأرسل الأمير الأشقر إلى الملك بيبرس محملاً بالهدايا، وفعل الظاهر بيبرس المثل وأرسل ليفون إلى أبيه، بذلك أصبحت أهم المناطق في أرمينيا تحت سيطرة الملك الظاهر.

4. استيلاؤه على أنطاكية

توجه الملك بيبرس باتجاه أنطاكية في 1 رمضان 666 للهجرة/ 15 أيار 1268 ميلادي، وعند مروره بحمص أمر ببناء مسجد فيها ومنع المنكرات والخمر، ثم أكمل طريقه حتى وصل إلى مدينة حماة، وهناك رتب جيشه وقسمه إلى ثلاثة فرق: الأولى فرقة الأمير بدر الدين الخزندار، الثانية فرقة الأمير عز الدين أيغان والثالثة برفقته.

أحاطت الفرق الثلاثة بمدينة أنطاكية (التي اعتُبرت العاصمة الثانية للصليبين بعد القدس) براً وبحراً وقطعت عنهم الإمدادات، دخلها جيش بيبرس وجرت فيها عدة معارك تكبد فيها الصليبيون خسائر فادحة، ولجأ أهالي أنطاكية إلى القلعة وتحصنوا بها، فحاصرهم جيش المغول وأرسلوا إلى الملك يلتمسون عفوه، فعفا عنهم وأخرجهم من القلعة وسلمها للأمير بدر الدين خزندار والأمير بدر الدين بيسري الشمسي.

فتوحات الظاهر بيبرس 663ه/ 1265م

ذكر الكاتب محمود شلبي في كتابه (حياة الملك الظاهر بيبرس)، الصفحة (192) الفتوحات التي حققها الظاهر بيبرس في حياته:

  • فتح قيسارية الشام

كانت قيسارية؛ مدينة على ساحل فلسطين، أول فتوحات الظاهر بيبرس إذ كانت بيد الصليبين، وصل الملك الظاهر مع جيشه إلى قيسارية في 9 جمادى الأولى عام 663 للهجرة وحاصرها، فهرب الصليبيون إلى القلعة ودارت معركة بين جيش الظاهر والفرنجة، وبدأت الكفة ترجح لصالح جيش المسلمين فهرب الفرنجة وسلموا القلعة بما فيها، فتسلق المسلمون الأسوار ودخلوا إليها وصعد الظاهر بعدهم.

  • فتح حيفا

توجه السلطان إلى حيفا مع عسكره، وبدأوا بشن غارات على الفرنجة، فركب الفرنجة سفنهم بعد أن قتل منهم وأُسر البعض، ثم عاد السلطان إلى قيسارية ومنها توجه إلى أرسوف.

  • فتح أرسوف

رحل الملك الظاهر عن قيسارية وذهب إلى أرسوف في 21 أيار/مايو عام 1265، حاصر المدينة وأمر بجلب الأخشاب وإحاطة المدينة بها كما أمر بحفر الخنادق وسقفها بالأخشاب، بعد تحصينه الجيش بدأت المعركة والضرب على أسوار المدينة وهدمها بالمنجنيق، واستطاع المسلمون الدخول إلى المدينة في 6 نيسان/أبريل وهاجموا القلعة واستمرت المعركة مدة ثلاثة أيام استسلم الفرنجة بعدها وطلب قائدهم الأمان من بيبرس، فأعطاه الأمان واستلم القلعة منهم.

  • فتح قلعة صافيتا 669ه / 1271م

توجه الملك الظاهر 10 جمادى الآخر عام 669 للهجرة/ 1271 ميلادي برفقة ابنه الملك السعيد إلى دمشق، فبقي ابنه فيها وتوجه الظاهر إلى بعلبك ووصل إلى طرابلس، فقتل وأسر من تبقى فيها من الفرنجة وكان يريد هدم قلعة صافيتا، لكن أهالي صافيتا طلبوا منه الأمان فأعطاهم إياه وتوجه إلى حصن الأكراد فنكثوا، ثم قامت جماعة من جيش الملك بإحضار الأهالي إليه في حصن الأكراد، وأراد قتلهم؛ لأنهم لم يثقوا بأمانه، فشفع لهم عنده الملك السعيد؛ خامس سلاطين المماليك البحرية فأطلق سراحهم.

  • فتح حصن الأكراد 669ه / 1271م

وصل الملك الظاهر إلى حصن الأكراد في 9 رجب عام 669 بعد إغارته على طرابلس وقلعة صافيتا، ثم وافاه الملك المنصور صاحب حماه إلى هناك وبدأ القتال بينهم وبين الفرنجة، ثم تمت هزيمة الفرنجة وسلموا القلعة إلى الملك الظاهر، فتسلم الحصن ثم أرسل أهله إلى طرابلس وجعل كنيسة البلد جامعاً وولى فيه نائباً وقاضياً.

وقال المؤرخ شهاب الدين النويري: "وأول فتوحاته قيسارية الشام بالساحل وآخر فتوحاته قيسارية الروم وأما عدة فتوحاته فكانت تزيد على أربعين حصناً وكان بيده في الشام ومصر ست وأربعون قلعة".

المعركة التي أوقفت غزو المغول عام 1277

بعد عودة الملك بيبرس إلى مصر أرسل كتاباً إلى الروم للخروج من الأراضي التي استوطنوها، فأرسلوا بطلب الإمدادات من حلفائهم واستعدوا لملاقاة جيش المماليك بقيادة الملك بيبرس، انطلق بيبرس مع جيشه وكان كلما وصل إلى منطقة يأخذ معه عساكرها وأسلحتها، وصل إلى حلب واتجه منها إلى جيلان؛ إحدى المدن السياحية تقع في جنوب غرب تركيا ثم عينتاب؛ سادس أكبر مدينة في تركيا ، الديباج؛ منطقة سكنية في ايران، كينوك؛ بلدة صغيرة.

ثم عبر النهر الأزرق؛ النهر الأبيض حالياً إلى الدربند؛ مدينة كانت ضمن الاتحاد السوفييتي قديماً وهي مدينة روسية حالياً، بذلك استطاع أن يسيطر على كل المسالك المؤدية للروم، ثم أمر الأمير سنقر الأشقر؛ والي حلب أن يتقدم بفرقة عسكرية، فالتقت مع كتيبة مغولية مكونه من ثلاثة آلاف فارس واشتبك معهم الأمير سنقر وهزمهم.

وصل الخبر إلى الملك بيبرس أن المغول يستعدون لملاقاته على نهر جيحان؛ يقع في جنوب تركيا فصعد مع جنوده إلى الجبل المطل على صحراء أبلستين وبدأت المعركة، وهزم المغول والروم الذين تحالفوا للقضاء على حكم المماليك فيها وتكبدوا الكثير من الخسائر وأسر العديد منهم، كما دخل الملك بيبرس إلى قيسارية عاصمة بلاد الروم آنذاك وجلس على عرشها.

وفاة الملك الظاهر بيبرس

عاد الملك بيبرس بعد حروبه التي خاضها ومعاركه الدامية وفتوحاته العديدة إلى دمشق وأقام في قلعتها، ثم أصابه مرض شديد استمر ثلاثة عشر يوماً، عجز أطباء زمنه عن معالجته وتوفي في 676ه/1277م ودفن في دار العقيقي التي اشتراها ابنه الملك السعيد. تذكر بعض المصادر أن الظاهر بيبرس مات متأثراً بالسم، ولكنها غير مؤكدة.

زواج الظاهر بيبرس وأولاده

تزوج الظاهر بيبرس العديد من النساء وأنجب عشرة من الأبناء: ثلاثة ذكور، وهم بركة خان، بدر الدين سلامش وخضر، وسبع بنات، وكان قد رتب وراثة الحكم من بعده لابنه بركة خان، وأخذ له البيعة من أمراء الجيش وكبار الدولة، ولقب بالملك السعيد وتزوج ابنة الأمير قلاوون، ولكنه دبر مكيدة لقلاوون وأراد اعتقاله، فكشفه وحاصره في قلعته إلى أن تنازل عن السلطة، ثم تولى أخوه بدر الدين سلامش الحكم، لكنه لم يدم طويلاً لأنه كان صغيراً في السن، فتمت تنحيته وانتهى بذلك حكم ورثة بيبرس وانتقل إلى الأمير قلاوون.

ختاماً.. تتداخل الأحداث في التاريخ لتصل إلى نهاية ثابتة، حكم بلاد الشام ومصر وفلسطين العديد من الأمراء والسلاطين المماليك، ولكن أبرزهم كان الظاهر بيبرس الذي عمل جاهداً على تحقيق الأمن والاستقرار والازدهار فيها، ولم يهدأ حتى حارب المغول والصليبين الذين أرادوا تقسيم البلاد والسيطرة عليها، وما زال الظاهر بيبرس الشخصية الأكثر تأثيراً بين المماليك تنتقل أخبار معاركه عبر الأجيال.

القيادي الآن على واتس آب! تابعونا لكل أخبار الأعمال والرياضة