الشاعر امرؤ القيس، الملك الضليل

  • بواسطة: بابونج تاريخ النشر: الأحد، 24 نوفمبر 2019 آخر تحديث: الأربعاء، 25 مايو 2022
الشاعر امرؤ القيس، الملك الضليل

لم يعش امرؤ القيس حياةَ الملوك، فبداية حياتهِ قضاها مع صعاليك القوم، يطوف في أحياء العرب ويلاحق النساء، لاهياً ماجناً، وفي أواخر حياته، عاش يطارد قتلة والده، ويصبو إلى الانتقام، إلا أن امرؤ القيس بلغ أوج القصيدة العربية، رغم أنه لم يعمر طويلاً، فهو الوصّاف المجيد، وهو باعثُ الحياة في أركان صوره.

وتظهر براعته في التصوير وقوة التراكيب وبلاغتها بشكلٍ كبير في قصيدة "قفا نبك"، التي أخذت مكانها بين أولى معلقات العرب الشعرية، فامرؤ القيس، وإن فشل في استعادة ملك أبيه في آخر عهده، ولم يبلغ سؤله في الانتقام لأبيه كما أراد، إلا أنه تمكن من أن يبلغ مراده في عوالم القصيدة العربية، فلمع نجمه في عصره، وتخّلد اسمه على مر العصور.

امرؤ القيس الطفل الذي خالف رغبة والده

ولد امرؤ القيس عام 501 ميلادي في منطقة نجد، أبوه حجر الكندي، وهو ملك من ملوك كندا، وأمه هي فاطمة بنت ربيعة التغلبي، وكان امرؤ القيس أصغر أبناء حُجر، ومنذ طفولته كانت لديه رغبة قول الشعر، حتى أن والده رفض ذلك، معتبراً أن قول امرؤ القيس للشعر عادة تنافي عادات أبناء الملوك، إلا أن امرؤ القيس خالف رغبة أبيه، بل قال الشعر في بواكير عمره، كما أنه شب وكبر على اللهو والمجون، إذ أغرق نفسه في شرب الخمر، وملاحقة النساء، وهي عادةٌ درج عليها امرؤ القيس، وتميز بها، إذ كان من المعروف عنه أنه يلاحق الحسان، حتى يعرف مكانهم، فينزل إليهم، يقاسمهم وقته ويولم لهم صيده.

عنيزة المحبوبة الأشهر في حياة امرؤ القيس

على خلاف الشعراء العذريين الذين ينذرون نفسهم لحبٍّ عفيفٍ واحد، كان فؤاد امرؤ القيس لا يثبت على حب فتاةٍ واحدة، ينذر لها نفسه وشعره، وإنما كان يبحث عن المتعة الحسية، قاصداً اللهو والمجون، فتعددت محبوباته، لكن أشهر محبوباته كانت ابنة عمه عنيزة، والتي كان يلقبها بفاطمة (لا سيما في قصائده)، وبرزت شهرتها في معلقته، بيد أنه لم يكن يظفر بقلبها وحبها، وكان يقضي وقته يلاحقها في الحي حتى ينعم بوصلها، وكان تغزله بها تغزلاً حسياً، فيقول في معلقته، واصفاً لقاءً متخيلاً بينه وبينها، كان يصبو من خلاله إلى تحقيق متعته ولهوه:

وبيضة خدرٍ لا يرام خباؤها .. تمتعت من لهو بها غير معجل

تجاوزت أحراساً إليها ومعشراً .. علي حراصاً لو يسرون مقتلي

إذا ما الثريا في السماء تعرضت .. تعرض أثناء الوشاح المفضل

فجئت، وقد نضت لنوم ثيابها .. لدى الستر إلا لبسة المتفضل

فقالت يمين الله ما لك حيلةٌ .. وما إن أرى عنك الغواية تنجلي

خرجت بها أمشي تجر وراءنا .. على أثرينا ذيل مرطٍ مرحل

معلقة امرؤ القيس ووصف مغامرته مع عنيزة

لعل _كما ذكرنا_ أن شهرة حب امرؤ القيس لعنيزة أتى من ذكرها في معلقة "قفا نبك"، فكما أن لكل معلقة من معلقات الجاهلية غرضٌ أساسي يطغى على الأغراض التقليدية في القصيدة الجاهلية (الوقفة على الأطلال، الحنين إلى ديار المحبوبة، وصف الراحلة، الافتخار بالنسب..)، فإن معلقة "قفا نبك" لم تبتعد عن ذلك والغرض الأساسي هو أن يشرح امرؤ القيس همه بعد مقتل أبيه، ويصف مغامرته مع ابنة عمه عنيزة عندما ذبح راحلته (ناقته) ليطعمها ومن كان معها من فتيات الحي، وذلك بعد أن أطال جلوسهم في وادي دارة الجلجل متقصداً، ويقسّم معلقته إلى عدة أقسام، في البداية يستهلها بالوقوف على الأطلال ووصف الحنين إليها، ثم يصف مغامرته الغرامية مع ابنة عمه في دارة جلجل (المكان الذي التقى فيه بعنيزة)، فيقول:

قِـفَـا نَـبْـكِ مِـنْ ذِكْـرَى حَـبِـيبٍ ومَنْزِلِ .. بسِـقْطِ اللِّـوَى بَيــْنَ الدَّخُـول فَحَـوْمَلِ

فَـتُـوْضِـحَ فَــالمِـقْـراةِ لـمْ يَـعْـفُ رَسْمُها .. لِـمَـا نَـسَـجَـتْـهَـا مِـنْ جَـنُـوبٍ وشَمْـألِ

تَـرَى بَــعَــرَ الأرْآمِ فِــي عَــرَصَـاتِـهَــا .. وَقِـيْــعَــانِــهَــا كَــأنَّــهُ حَــبُّ فُــلْــفُــلِ

ألاَ رُبَّ يَــوْمٍ لَــكَ مِــنْــهُــنَّ صَــالِــحٍ .. وَلاَ سِـــيَـمَــا يَــوْمٌ بِــدَارَةِ جُــلْــجُــلِ

ويَـوْمَ عَـقَــرْتُ لِــلْـعَــذَارَي مَـطِـيَّـتِي .. فَـيَـا عَـجَـبـاً مِـنْ كـورهـا الـمُـتَـحَـمَّلِ

فَـظَـلَّ الـعَـذَارَى يَـرْتَـمِـيْـنَ بِـلَحْـمِـهَا .. وشَـحْـمٍ كَـهُــدَّابِ الـدِّمَـقْـسِ الـمُـفَـتَّـلِ

ويَـوْمَ دَخَـلْـتُ الـخِـدْرَ خِـدْرَ عُـنَـيْـزَةٍ .. فَـقَالَـتْ:لَكَ الـوَيْـلاَتُ إنَّـكَ مُـرْجِـلِـي

امرؤ القيس الوصّاف المجيد

كغيره من شعراء عصره ومن سبقه من شعراء البادية، حافظ امرؤ القيس على قالب القصيدة العربية الأولى والتي لا تخلو من وقفةٍ على الأطلال، ومن ثم الحنين إلى المحبوبة والتغني بآثارها، ووصف البادية والراحلة التي تشكل جزءاً أساسياً من حياة الشاعر في تجاوز مساحات البادية الشاسعة، أو في معاركه وغزواته...الخ.

إلا أن امرؤ القيس كان من الشعراء المتفردين في الوصف، فكان مجدداً في صوره، مبتعداً عن الصور المطروقة، حيث أن ألفاظه تتراوح بين اللين والخشونة، ويستخدم الصور التي تبتعد عن التفصيل والتبسيط، فهو يُعمل خيال من يسمع في رسم تفاصيل الصورة، كما أن صور امرؤ القيس تميزت بأنها تأتي على السجية دون تكلف، كما أنه تميز في دقة تصوير العواطف الإنسانية من أشواق (كما في المعلقة، كالحنين إلى ديار المحبوبة)، أو الألم والقهر وهي الأشعار التي قالها عندما قُتل والده.

امرؤ القيس يصف يوماً ماطراً في الصحراء

يصف امرؤ القيس ملامح الصحراء، في يومٍ ماطرٍ والسماء يضيئها البرق، ثم يصور المشهد بعد هطول الأمطار، إذ اقْتُلعت الأشجار بفعل السيول، ثم يصف كيف أمرعت الأرض، وأصبحت الطيور تغني فرحاً بالمطر، وكأن تلك الطيور تبدو لشدة فرحها قد شربت الخمر صباحاً فبات تغريدها يملأ الجو والمكان، فيقول:

أحــارِ تَــرَى بَــرْقــاً أُرِيْــكَ وَمِـيْـضَــهُ .. كَـلَــمْــعِ الــيَــدَيْــنِ فِــي حَــبِــيٍّ مُـكَـلَّلِ

يُــضِــيءُ سَــنَــاهُ أَوْ مَــصَــابِيْحُ رَاهِبٍ .. أَمــان الــسَّــلِــيْــطَ بالـذُّبَـالِ المُفَتَّلِ

قَــعَــدْتُ لَــهُ وصُــحْــبَــتِــي بَـيْنَ حامر .. وبَــيْــنَ إكــام بُــعْــدَمَــا مُــتَــأَمَّــــلِــي

فأَضْــحَــى يَــسُــحُّ الـمَاءَ عن كل فيقةٍ .. يَــكُــبُّ عَــلَــى الأذْقَــانِ دَوْحَ الكَـنَـهْبَلِ

وتَـيْـمَـاءَ لَـمْ يَـتْــرُكْ بِـهَـا جِـذْعَ نَـخْــلَـةٍ .. وَلاَ أُطُـــمـــاً إِلاَّ مَــشِــيـــداً بِــجِــنْــدَلِ

كَــأَنَّ ذُرَى رَأْسِ الـمُــجَــيْــمِــرِ غُــدْوَةً .. مِــنَ الــسَّــيْــلِ وَالــغُــثّــاءِ فَلْكَةُ مِغْزَلِ

كَــــأَنَّ أبـــانـــاً فِــي أفـــانــيــن ودقــه .. كَــبِــيْــرُ أُنَـــاسٍ فِــي بِــجَــادٍ مُـــزَمَّـلِ

وأَلْــقَــى بِــصَــحْــرَاءِ الـغَـبـيْطِ بَعَاعَهُ .. نُــزُوْلَ الـيَـمَــانِـي ذِي العِـيَابِ المحملِ

كَأن مكاكي الجواء غديّةً .. صبحن سلافاً من رحيقٍ مفلفلِ

ليل امرؤ القيس مثقل بالهموم

يصف امرؤ القيس ليله الذي تعتريه الهموم والآلام ولا سيما بعد مقتل أبيه، فكأن الليل ابتلاءٌ مثقلٌ بالمتاعب التي ترهق كاهل امرؤ القيس، حتى أصبح منتظراً لحظة أفول هذا الليل، فقال:

ولَـيْـلٍ كَـمَـوْجِ الـبَـحْـرِ أَرْخَـى سُـدُوْلَــهُ .. عَــلَـيَّ بِـأَنْـوَاعِ الـه��ــمُــوْمِ لِــيَــبْــتَــلِـي

فَــقُــلْــتُ لَـهُ لَـمَّـا تَـمَــطَّــى بِـصُــلْــبِـهِ .. وأَرْدَفَ أَعْــجَــازاً وَنَـــاءَ بِــكَــلْـــكَــلِ

ألاَ أَيُّـهَـا الـلَّـيْـلُ الـطَّـوِيْــلُ ألاَ انْـجَـلِــي .. بِـصُـبْـحٍ، وَمَــا الإصْـبَـاحُ مـنِـكَ بِأَمْثَلِ

فَــيَــا لَــكَ مَــنْ لَــيْــلٍ كَــأنَّ نُــجُــومَــهُ .. بــكــل مُــغــار الـفــتـل شُــدّت بـيـذبل

كَـأَنَّ الـثُـرَيّــا عُـلِّـقَــت فـي مَـصـامِــهـا .. بِــأَمْــرَاسِ كَــتَّـانٍ إِلَــى صُــمِّ جَــنْــدَل

امرؤ القيس يصف جواده

يصف امرؤ القيس جواده، الأشبه بوحوش البادية ضخامةً، والذي يبلغ من السرعة حداً يصعب فيه تميز إقباله من إدباره كما أنه غير كل الجياد الأخرى، فهو لشدة سرعته لا يثير غباراً خلفه، في حين أن الجياد الأخرى لثقل حركتها تثير الغبار خلفها، فقال:

وَقَـدْ أغْــتَـدِي والــطَّـيْـرُ فِـي وُكُـنَــاتِـهَا .. بِــمُــنْــجَــرِدٍ قَــيْـــدِ الأَوَابِــدِ هَــيْــكَــلِ

مِــكَــرٍّ مِــفَــرٍّ مُــقْــبِــلٍ مُــدْبِــرٍ مَــعــاً .. كَــجُلْـمُوْدِ صَـخْرٍ حَطَّهُ السَّـيْلُ مِنْ عَلِ

كَـمَـيْـتٍ يَـزِلُّ الـلَّـبْـدُ عَـنْ حَـالِ مَــتْــنِـهِ .. كَــمَــا زَلَّــتِ الـصَّـفْــوَاءُ بِــالــمُـتَـنَـزَّلِ

مِـسِـحٍّ إِذَا مَـا الـسَّـابِـحَـاتُ عَـلَى الوَنى .. أَثَــرْنَ الـغُــبَــارَ بِــالـكَــدِيْــدِ الــمَــرَكَّلِ

امرؤ القيس أفنى عمره من أجل الثأر

ثارت قبيلة بني أسد على ملك كندة حجر بن الحارث، ورفضوا دفع الأتاوات المفروضة عليهم، فحاربهم حجر وأسر أشرافهم، ثم تشفع الشاعر عبيد الأبرص (من شعراء بني أسد)، فعفا حجر عنهم، وذلك بعد أن قال قصيدةً يرثي بها حال بني أسد، ويتودد فيها لحجر، وذكر فيها:

يا عين فابكي ما بني .... أسد فهم أهل الندامة

أهل القباب الحمر والنـ ..... ـنعم المؤبل والمدامة

وذوي الجياد الجرد والـ ..... ـأسل المثقفة المقامة

إما تركت تركت عفـ ... ـوا أو قتلت فلا ملامة

أنت المليك عليهم .... وهم العبيد إلى القيامة

ذلوا لسوطك مثل ما ......ذل الأشيقر ذو الخزامة

إلا أن بني أسد عادوا وثاروا عليه مرّةً أخرى وقتلوه بعدها، وكان امرؤ القيس في تلك الآونة يعيش مجونه الذي شب عليه، يشرب الخمر ويلاحق النساء، واستمر كذلك حتى أتاه نبأ مقتل أبيه، عندها كانت النهاية الحقيقية لمرحلة اللهو، حيث قال امرؤ القيس _عند سماعه النبأ_ مقولته المشهورة: "ضيعني أبي صغيراً، وحملني دمه كبيراً، اليوم خمرٌ وغداً أمرُ"، وقال قصيدته التي يصف فيها سوء وقع ذلك النبأ، ويقول فيها:

أتاني وأصحابيْ على رأسِ صيلعٍ ..... حديثٌ أطارَ عني النومَ وأنعمَا

فقلتُ لعجليَّ بعد مآلهِ ...... تبيّنَ وبينَ لي الحديثَ المعجما

فقال أبيتَ اللعن عمروٌ وكاهلٌ ..... أباحوا حمى حجرَ فأصبحَ مسلما

وبدأ يعد نفسه للانتقام من بني أسد على فعلتهم، وعندما علم بنو أسد باستعداد امرؤ القيس للأخذ بالثأر؛ عرضوا عليه دم أسرة منهم، وديةً من الماشية مقابل أن يتنازل عن دم أبيه ولا يُعمل الحرب، إلا أن امرؤ القيس رفض ذلك، وبدأ حربه على بني أسد تسانده قبيلتا بكر وتغلب، وقتل الكثير من بني أسد وأثخن بهم، حتى طلبت منه قبيلتا بكر وتغلب أن يوقف حربه ويكتفي بما فعل، إلا أن امرؤ القيس لم يستجب ولم يكتفِ بما فعل.

وعندما اشتد أمر الحرب، أراد المنذر ملك الحيرة في ذلك الوقت أن يقتل امرؤ القيس، إلا أن امرؤ القيس هرب من وجه المنذر ووصل به المطاف إلى السموأل بن غريض(أحد الشعراء البارزين في عصره)، ولجأ في حصنٍ له في منطقة تيماء (شمال شبه الجزيرة العربية)، وهناك أودع ابنته ودروعه وسلاحه، وانطلق إلى القسطنطينية قاصداً الإمبراطور الروماني يوستنيانس الأول، ليعينه على أعدئه، إلا أن مسعاه خاب هناك، ومنها عاد إلى أنقرة.

مات امرؤ القيس ملكاً ضليلاً

بعد فشل امرؤ القيس في الحصول على الدعم والمساندة من الإمبراطور الروماني، عاد إلى أنقرة، وهناك أصيب بداء الجدري ما سبب له قروحاً أودت بحياته عام 540 ميلادي، ومات ضليلاً بعيداً عن أهله وقومه، كما بدأ أول شبابه ملكاً ضليلاً في البادية.

أخيراً... عاش امرؤ القيس حياةً قصيرة مقارنةً مع غيره من الشعراء الكبار كزهير بن أبي سلمى وعنترة بن شداد، إلا أن امرؤ القيس تمكن أن يصنع مجداً شعرياً لا يقل عن مجد أولئك الشعراء، وحتى الآن لا تزال لقصائد امرؤ القيس مكانتها التي لم تتبدل مع تبدل الحياة وتطور المجتمع ولغة العصر، فامرؤ القيس وإن عاش ضليلاً في رحاب البادية، إلا أنه لم يضل طريقه في رحاب عروض القصيدة العربية وقوافيها وصورها.