الشيخ الرئيس ابن سينا

  • بواسطة: بابونج تاريخ النشر: الأحد، 24 نوفمبر 2019 آخر تحديث: الإثنين، 29 نوفمبر 2021
الشيخ الرئيس ابن سينا

الشيخ الرئيس أبو علي الحسين بن سينا، واحدٌ من ألمع علماء الإسلام وأكثرهم إنتاجاً، صنَّف الكثير من الأمراض التي لم تصنف قبله ووضع دستوراً طبياً تمت ترجمته للغات عديدة، كما وضع مؤلفات كثيرة في الفلسفة والفقه والإلهيات.

في هذه المادة سنتعرف أكثر على شخصية ابن سينا وسنحاول أن نتذكر معاً أبرز مؤلفاته، وستكون لنا وقفة مع البراهين التي ذكرها ابن سينا للاستدلال على وجود النفس، كما سنورد لكم قصة حياته كاملة كما كتبها بنفسه وأكملها عنه أحد تلاميذه، تابعوا معنا.

عرف ابن سينا بألقاب كثيرة أبرزها الشيخ الرئيس

هو أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسين بن علي بن سينا، ولد في سنة 370هـ/981م في ولاية أفشنة قرب بخارى (أوزباكستان)، وكان والده من مدينة بلخ في خراسان رجلاً ثرياً ومقرباً من الملك نوح بن منصور حتى عينه والياً على أفشنة، ثم انتقلت العائلة إلى بخارى عام 375هـ/986م، كما كان والد ابن سينا قد لمس في ولده رجاحة عقله وسرعة بديهته فجمع له أساتذة العلم والفقه حتى حفظ القرآن الكريم في العاشرة، وأتم علوم الفلسفة والمنطق إضافة إلى الطب وهو شاب في السادسة عشرة.

كما قيل أنَّه فرغ من العلم وتفرغ له في الثامنة عشرة من عمره فألَّف أول كتاب له في الواحدة والعشرين (تصنيف المجموع لأبي الحسن العريضي)، ومهما حاولنا أن نعيد صياغة قصة حياة ابن سينا لن نتمكن أن نجعلها أكمل مما قاله هو عن نفسه وما أكمل عنه الجوزجاني تلميذه ورفيق دربه، لذلك سنورد لاحقاً سيرة حياة ابن سينا كاملة كما رواها هو بعد أن نطلع على أشغاله وأعماله وأهم مؤلفاته.

ألقاب ابن سينا

يعرف ابن سينا في اللغة الإنجليزية باسم (Avicenna) أو (Avicenne)، أمَّا بالعربية فله ألقابٌ كثيرة لكثرة علمه وحكمته ومعرفته؛ فهو الشيخ الرئيس، ومصدر التأسيس، وصاحب الأجل الحكيم، وهو شرف الملك، وحجة الحق، أرسطو الإسلام، وقد لقبوه أيضاً الدستور، وحكيم الدهر، حيث أن هذه الألقاب لم يأخذها لسلطانه أو لثرائه إنَّما لوفرة علمه وتفرد آرائه.

ترك أبو علي بن سينا مؤلفات كثيرة في شتى العلوم

كما ذكرنا فقد درس ابن سينا الفلسفة والمنطق والحساب الهندي إضافة إلى الفقه والطب، وقد أبدى براعة في كل تلك العلوم ووضع فيها مؤلفات وشروح كثيرة، كما اهتم بالموسيقا وألَّف فيها، سنتذكر معاً أبرز مؤلفات الشيخ الرئيس ابن سينا:

مؤلفات ابن سينا في الطب

برع في الطبِّ صغيراً (في السادسة عشرة) وعالج الأمير الساماني نوح بن منصور، ولمَّا سأله الأمير عن رغباته كهدية له طلب الحسين بن سينا أن يقرأ مكتبة الأمير، وكان له ذلك فانكب عليها حتى أتى على كل ما فيها من الكتب والعلوم، وما ميز ابن سينا في الطبِّ أنَّه كان سبَّاقاً في الكثير من المواضيع فيما يتعلق بالتشخيص والعلاج إضافة إلى التشريح الباطني، وقد ترك في الطبِّ مؤلفاتٍ بالغة الأهمية تمت ترجمتها إلى لغات عدة واعتُمدت كقاعدة رئيسية لاكتشافات طبية كبيرة في الطبِّ الحديث، فكان أبرزها كتابه (القانون في الطب) وهو أشهر مؤلفاته في هذا المجال حيث أتى فيه على ذكر العديد من الأمور التي لم يذكرها أحد قبله، منها بعض الطفيليات والديدان المعوية أبرزها المستديرة (Ancylostoma)، كما اهتم الشيخ الرئيس بالصحة العامة ولياقة الجسد، ويعتبر من أوائل الأطباء الذين لاحظوا تأثير الوهم على حالة المريض، فيما عالج انسداد مجاري الدمع بواسطة المسبار، وقدم وصفاً دقيقاً لأعراض العديد من الأمراض التي تصيب أعضاء مختلفة من الجسم.

مؤلفاته في غير الطب

لم تقتصر أعمال ابن سينا على الطبِّ، بل سبق مؤلفاته الطبية العديد من المؤلفات في الوجوديات والإلهيات والفلسفة، إضافة إلى الطبيعيات والموسيقى، فضلاً عن الشِعر، حيث ألَّف الإشارات والتنبيهات، وكتاب الشفاء وكتاب النجاة وجميعها في الفلسفة، فضلاً عن الرسائل والردود والشروح التي قدمها وأبرزها مختصر المجسطي في الرياضيات، كما ألَّف في الفلك والفيزياء (علم الهيئة)، إضافة إلى مقالاته في الموسيقى، وسنتعرف أكثر على ظروف تأليف هذه الكتب أثناء اطلاعنا على سيرة حياته الكاملة.

البراهين على وجود النفس عند ابن سينا

وكان موضوع وجود ذات غير مادية في الإنسان موضوعاً جدلياً ف�� عصر ابن سينا (وما يزال)، فكان الشيخ الرئيس من العلماء المسلمين الذين بحثوا في هذا الأمر وحملوا همَّ برهانه ليتفق مع ما جاء في القرآن الكريم من وجود طبيعتين في الإنسان إحداهما مادية وهي الجسم والأخرى غير مادية وهي النفس، فقدم ابن سينا مجموعة من البراهين على وجود النفس في الإنسان، هي في معظمها إعادة صياغة لبراهين أرسطو والفارابي وغيرهم، باستثناء برهان الرجل الطائر الذي يعتبر فريداً عند ابن سينا.

البرهان الطبيعي على وجود النفس عند ابن سينا

هذا البرهان كان مطروحاً قبل ابن سينا، لكنَّه أكَّد عليه وزاد في تفصيله، حيث ينظر البرهان الطبيعي على وجود النفس في الحركات الإرادية المضادة للطبيعة التي تصدر عن الكائنات الحية، والتي تدل على وجود محركٍ مستقلٍ عن الجسد المنصاع للطبيعة، فسقوط الحجر من مكان مرتفع هو حركة تحصل وفق القوانين الطبيعية، لكن نهوض الرجل المستلقي يحصل بعكس الطبيعة، كذلك كل الحركات التي نقوم بها بإرادتنا دون محركٍ خارجي إنَّما تدل على وجود النفس المفارقة للمادة والمسؤولة عن هذه الحركات.

البرهان النفسي (السيكولوجي)

ويعتبر ابن سينا أنَّ المشاعر التي تنتاب الإنسان ويعبِّر عنها تدلُّ أيضاً على وجود النفس، فالحزن والفرح كذلك الغضب والملل كلها مشاعر لا تصدر عن اللحم أو العظم، إنَّما تصدر عن النفس التي تدركها، وهذا السبب الذي يؤدي إلى غياب هذه المشاعر عند المخلوقات غير المدركة.

استمرارية النفس عند ابن سينا

وهذا البرهان لا يفيد في إثبات وجود النفس فحسب، وإنَّما يفيد في مفارقتها التامة للطبيعة الجسدية للإنسان، فالجسد يتبدل مع مرور الزمن حيث أنَّ الخلايا تموت وتنمو غيرها، كما أنَّ الشكل الخارجي يمر بتغيرات جذرية في عدَّة مراحل عمرية مختلفة، حتى أن أصدقاء الطفولة قد لا يعرفون صديقهم بعد عشرين أو ثلاثين سنة، لكن النفس تبقى مستمرة لا تتغير، والمقصود هنا أن شعور الإنسان بذاته ثابت لا يتغير "فهو هو نفسه في كل المراحل"، حتى وإن اكتسب خبرات جديدة ومعلومات أكثر لكنه في الحقيقة مستمر لا ينقطع، أمَّا الجسد فهو متغير.

برهان الرجل المعلق في الهواء (الرجل الطائر)

يفترض ابن سينا إنساناً معلَّقاً في الهوا، حيث سيفقد بذلك شعوره بجسده ويفقد إدراكه لأعضائه، فهل سيفقد إحساسه بذاته ووجوده مع فقدانه إدراكه لجسده؟! يجيب ابن سينا أنَّ الإنسان لن يفقد شعوره بذاته ولن يفقد استمراريتها ما يدل على مفارقتها للجسد.

برهان وحدة النفس

وهنا يقصد ابن سينا بوحدة النفس أنَّ النفس في الإنسان تشكل الوسط الجامع للأحاسيس والمعقولات كلِّها، وإن تميز الإنسان بوجود القوى الشهوانية والقوى العاقلة والغضبية لكن النفس هي ما تربط هذه السمات كلها مع بعضها، فهذه المجموعات من الصفات التي تتحكم بسلوك الإنسان ما يشار لها مجتمعة "النفس".

إلى جانب الطب والفلسفة والموسيقا كان ابن سينا شاعِراً

وقد وصلنا من شِعر الشيخ الرئيس بضع قصائد طويلة جُمعت في ديوانٍ حمل اسمه، وأغلب أبياته في الحكمة الفلسفة بفروعها، أبرزها قصيدته العينية في وصف النفس التي قال فيها:

هَبطتْ إِليكَ مِنَ المَحَلِّ الأرفَعِ وَرقَاءُ ذَات تَعزُّزٍ وتَمنُّـــعِ

مَحجوبَةٌ عَنْ كُلِّ مُقلةِ عَارفٍ وهيَ الَّتِي سَفرَتْ ولمْ تَتبرْقَـعِ

وصلتْ على كُرْهٍ إِليْكَ ورُبَّما كَرهتْ فِراقكَ وهيَ ذاتُ تَفجُّعِ

أنِفَتْ وما ألِفَتْ فلمَّا واصلتْ أنِسَتْ مُجاورَةَ الخَرَابِ البَلْقَـعِ (البلقع هو الفارغ من كل شيء)

وأظنُّهَا نَسِيَتْ عهوداً بالحِمَى ومنازِلاً بِفِراقِها لمْ تَقْنـــَعِ

تهذيب النفوس بالعلم عند ابن سينا

وقد نسبت هذه الأبيات البديعة له ولغيره، لكنَّنا نوردها من ديوانه الذي اعتنى به الدكتور حسين علي محفوظ وصدر عن مؤتمر المستشرقين الدولي عام 1957:

هذِّب النَّفس بالعُلومِ لتَرقى وتَرى الكلَّ فَهيَ للكُلِّ بَيتُ

إنَّما النَّفس كالزجاجةِ والعِلمُ سِراجٌ وحكمةُ اللهِ زيتُ

فهيّ إنْ أشرقّتْ فإنَّكَ حيُّ وهيَ إنْ أظلَمتْ فإنَّكَ ميتُ

ومن حكمته في كتمان السرِّ

صُنْ السرَّ عَن كُلِّ مستخبرٍ وحاذِر فما الحزمُ إلَّا الحذر

أسيركَ سرُّكَ إنْ صنتَهُ وأنتَ أسيرٌ له إن ظهر

وقال زاهداً لمَّا دنا أجله:

هبَّت نسيمُ وصالِكم سِحراً بحدائِقٍ للشوقِ في قَلبي

فاهتزَّ غُصنُ العَقلِ مِن طربٍ وتناثرت درراً مِن الحبِّ

وأتتْ خيولُ الهجرِ شامخةً مطرودةً بعساكرِ الحجبِ

وبقيتُ لا شيئاً أعاينهُ إلَّا حَسبتُ بأنَّه ربّي

سيرة حياة ابن سينا كاملة

حدَّث ابن سينا عن نفسه لأحد تلاميذه، فأخبر عن ميلاده وأول تعليمه وتنقلاته، ثمَّ أتمَّ سيرة حياته تلميذه أبو اسحق الجوزجاني، وقد وردت هذه السيرة في عدَّة مخطوطات محفوظة أبرزها مخطوطتان في اسطنبول، ومخطوطة محفوظة في المتحف البريطاني في مايكرو فيلم رقم (50)، وقد قام الدكتور حسن عاصي بجمع المعلومات من هذه المخطوطات إضافة إلى ما ذكره القفطي في كتابه (أخبار العلماء) ثم أجرى بينها التقاطع اللازم وأوردها في كتابه (ابن سينا الرجل والأثر) الصادر عن دار الفكر العربي في بيروت عام 1990.

أما نحن فنورد لكم السيرة كما رواها الوزير جمال الدين القفطي في كتابه المذكور، وقد استعنَّا بالنسخة المنشورة بواسطة دار الكتب العلمية في بيروت عام 2005، ولم ندخل أي تعديل على النص بحرفيته باستثناء تقسيم السيرة إلى مراحل لسهولة القراءة فقط، وبعض التعليقات البسيطة للتوضيح والتي وضعناها بين قوسين (هكذا)، كما أنَّنا اختصرنا بعض ما أورده الجوزجاني واكتفينا بذكر الأمور بالغة الأهمية.

أول حياة ابن سينا

سأله رجل من تلاميذه عن خبره فأملى عليه ما سطره عنه وهو أنَّه قال:

إن أبي كان رجلاً من أهل بلخ وانتقل منها إلى بخارى في أيام نوح بن منصور واشتغل بالتصرف، وتولى العمل في أثناء أيامه بقرية يقال لها خرمثين من ضياع بخارى وهي من أمَّهات القرى قربها قرية يقال لها أفشنة، وتزوج أمي منها وبها، وقطن بها وولدت منها بها (يقصد ولد من أمِّه قريتها)، وولد أخي بها، ثم انتقلنا إلى بخارى وحضرت معلم القرآن ومعلم الأدب حتى كان يقضي مني العجب، وكان أبي ممن أجاب داعي المصريين ويعد الإسماعيلية وقد سمع منهم ذكر النفس والعقل على الوجه الذي يقولونه ويعرفونه هم وكذلك أخي، وكانا ربما تذاكرا بينهما وأنا أسمع منهما وأدرك ما يقولانه وابتدءا يدعوانني أيضاً إليه ويجريان على لسانيهما ذكر الفلسفة والهندسة وحساب الهند، وأخذ والدي يوجهني إلى رجل كان يبيع البقل ويقوم بحساب الهند حتى أتعلم منه.

أول العلوم في حياة ابن سينا بعد حساب الهند

ثم جاء إلى بخارى أبو عبد الله الناتلي وكان يدَّعي الفلسفة، وأنزله أبي دارنا رجاء تعليمي منه وقبل قدومه كنت أشتغل بالفقه والتردد فيه إلى إسماعيل الزاهد وكنت من خيرة السائلين، وقد ألفت طرق المطالبة ووجوه الاعتراض على الوجه الذي جرت عادة القوم به، ثم ابتدأت بكتاب إيساغوجي على الناتلي (ايساغوجي تعني المقدمة وهو كتاب فرفوريوس اليوناني في المنطق ومقولاته)، ولما ذكر لي حدَّ الجنس أنَّه هو المقول على كثيرين مختلفين بالنوع في جواب ما هو؛ فأخذت في تحقيق هذا الحدِّ بما لم يسمع بمثله وتعجَّب مني كلَّ العجب وحذر والد من شغلي بغير العلم، وكان أي مسألة قالها لي أتصورها خيراً منه حتى قرأت ظواهر المنطق عليه وأما دقائقها فلم يكن عنده من خبر.

ابن سينا يعلِّم أستاذه الناتلي

ثم أخذت أقرأ الكتب على القسي وأطالع الشروح حتى أحكمت علم المنطق وكذلك كتاب إقليدس فقرأت من أوله خمسة أشكال أو ستة عليه ثم تواليت حلَّ بقية الكتاب بأسره ثم انتقلت إلى المجسطي ولما فرغت من مقدماته وانتهيت إلى الأشكال الهندسية قال لي الناتلي تولى قراءتها وحلَّها بنفسك ثم اعرض عليَّ ما تقرأه لأبيَّن لك صوابه من خطأه، وما كان الرجل يقوم بالكتاب (يقصد أنَّه لم يكن يفهمه جيداً)، وأخذت أحلُّ ذلك الكتاب فكم من شكل مشكل ما عرفه إلا وقت ما عرضته عليه وفهمته إياه.

بداية ابن سينا مع الطبِّ

ثم فارقني الناتلي متوجهاً إلى كركانج واشتغلت أنا بتحصيل الكتب من الفحوص والشروح من الطبيعي والإلهي وصارت أبواب العلوم تنفتح عليَّ، ثم رغبت في علم الطبِّ وصرت أقرأ الكتب المصنفة فيه، وعلم الطبِّ ليس من العلوم الصعبة فلا جرم أنيَّ برزت فيه في أقلَّ مدَّة حتى بدأ فضلاء الطبِّ يقرأون عليَّ (أي يتعلمون منه) علم الطبِّ وتعهدت المرضى (وقيل أنَّه عالجهم مجاناً) فانفتح عليَّ من أبواب المعالجات المقتبسة من التجربة مما لا يوصف وأنا مع ذلك أختلف إلى الفقه وأناظر فيه وأنا في هذا الوقت من أبناء الستة عشرة سنة.

تضرع ابن سينا والعِلم في المنام

ثم توفرت على القراءة سنة ونصف فأعدتُ قراءة المنطق وجميع أجزاء الفلسفة، وفي هذه المدة ما نمت ليلة واحدة بطولها ولا اشتغلت في النهار بغيره، وجمعت بين يدي ظهوراً، فكل حجة كنت أنظر فيها أثبت مقدمات قياسها ورتبتها في تلك الظهور، ثم نظرت فيما عساها تنتج وراعيت شروط مقدماتها حتى تحقق لي حقيقة تلك المسألة، وكل ما كنت أتحير في مسألة أو لم أكن أظفر بالحدِّ الأوسط في القياس ترددت إلى الجامع وصليت وابتهلت إلى مبدع الكلِّ، حتى فتح لي المنغلق منه ويسر المتعسر كنت أرجع بالليل إلى داري وأضع السراج بين يدي وأشتغل بالقراءة والكتابة، فمهما غلبني النوم أو شعرت بضعف عدلت إلى شرب قدح من الشراب ريثما تعود إليَّ قوتي ثم أرجع إلى القراءة، ومتى أخذني أدنى نوم أحلم بتلك المسألة بعينها حتى أن كثيراً من المسائل اتضحت وجوهها في المنام ولم أزل كذلك حتى استحكم معي جميع العلوم ووقفت عليها بحسب الإمكان الإنساني.

ابن سينا قرأ كتاب ما وراء الطبيعة أربعين مرَّة ولم يفهمه

وكلُّ ما علمته في ذلك الوقت فهو كما علمته الآن لم أزدد فيه إلى اليوم حتى أحكمت علم المنطق والطبيعي والرياضي، ثم عدلت إلى العلم الإلهي وقرأت كتاب ما بعد الطبيعة (Metaphysics واحد من أبرز كتب أرسطو) فما كنت أفهم ما فيه والتبس عليَّ غرض واضعه حتى أعدت قراءته أربعين مرَّة وصار لي محفوظاً وأنا مع ذلك لا أفهمه ولا المقصود به، وآيست من نفسي وقلت هذا الكتاب لا سبيل إليَّ فهمه.

وإذا أنا في يوم من الأيام حضرت وقت العصر في الورَّاقين، وبيد دلَّالٍ مجلد ينادي عليه فعرضه عليَّ فرددته ردَّ متبرمٍ معتقداً أن لا فائدة في هذا العلم؛ فقال لي اشترِ مني هذا فإنه رخيص أبيعكه بثلاث دراهم وصاحبه محتاج إلى ثمنه، فاشتريته فإذا هو كتاب لأبي نصرٍ الفارابي في أغراض كتاب ما بعد الطبيعة، فرجعت إلى البيت وأسرعت قراءته فانفتح عليَّ في الوقت أغراض ذلك الكتاب بسبب أنَّه قد صار لي على ظهر قلب، وفرحت بذلك وتصدقت ثاني يومه بشيء كثير على الفقراء وشكراً لله تعالى (ومن هنا نرى أثر الفارابي وأرسطو في براهين ابن سينا).

ابن سينا عالج سلطان بخارى وقرأ مكتبته

وكان سلطان بخارى في ذلك الوقت نوح بن منصور واتفق له مرض حار فيه الأطباء، وكان اسمي اشتهر بينهم بالتوفر على القراءة فأجروا ذكريَّ بين يديه وسألوه احضاري، فحضرت وشاركتهم في مداواته وتوسمت في خدمته فسألته يوماً الإذن لي في دخول دار كتبه ومطالعتها وقراءة ما فيها من كتب الطبِّ فأذن لي، فدخلت داراً ذات بيوت كثيرة في كل بيتٍ صناديق كتبٍ منضدة بعضها على بعض، في بيتٍ كتب العربية والشعر، وفي آخر الفقه، وكذلك في كلِّ بيتٍ كتب علم مفرد، وطالعت فهرست كتب الأوائل وطلبت ما احتجت إليه ورأيت من الكتب ما لا يقع اسمه إلى كثير من الناس قط ولا رأيته قط ولا رأيتها أيضاً من بعد؛ فقرأت تلك الكتب وظهرت فوائدها وعرفت مرتبة كلِّ رجل في علمه فلما بلغت ثمانية عشرة سنة من عمري فرغت من هذه العلوم كلِّها وكنت إذ ذاك للعلم أحفظ ولكنه اليوم معي أنضج وإلَّا فالعلم واحد لم يتجدد لي بعده شيء.

أول تصنيفات ابن سينا

وكان في جواري رجل يقال له أبو الحسن العروضي فسألني أن أؤلف له كتاباً جامعاً في هذا العلم، فصنفت له المجموع وسميته به (باسمه) وأتيت فيه على سائر العلوم سوى الرياضي، ولي إذ ذاك إحدى وعشرون سنة من عمري، وكان في جواري أيضاً رجل يقال له أبو بكرٍ البرقي، خوارزمي المولود، فقيه النفس متوحد في الفقه والتفسير والزهد ما إلى هذه العلوم وسألني شرح الكتب له فصنفت له كتاب الحاصل والمحصول في قريب من عشرين مجلدةً وصنفت له في الأخلاق كتاباً سميته كتاب البر والإثم وهذان الكتابان لا يوجدان إلا عنده فلم يعرفهما أحد ينتسخ منهما.

آخر ما رواه ابن سينا عن نفسه

ثم مات والدي وتصرفت بي الأحوال وتقلدت شيئاً من أعمال السلطان ودعتني الضرورة إلى الارتحال عن بخارى والانتقال إلى كركناج، وكان أبو الحسين السهلي المحب لهذه العلوم بها وزيراً، فقدمت إلى الأمير بها وهو علي بن المأمون وكنت على زي الفقهاء إذ ذاك بطيلسان وتحت الحنك وأثبتوا لي مشاهرةً دارة تقوم بكفاية مثلي، ثم دعت الضرورة إلى الانتقال إلى فسا ومنها إلى باورد ومنها إلى طوس ومنها إلى شقان ومنها إلى سمنقان ومنها إلى جاجرن رأس حد خرسان، ومنها إلى جرجان وكان قصدي الأمير قابوس فاتفق في أثناء هذا أخذ قابوس وحبسه في بعض القلاع وموته هناك، ثم مضيت إلى دهستان ومرضت بها مرضاً صعباً، وعدت إلى جرجان واتصل أبو عبيد الجوزجاني وأنشأت في حالي قصيدة فيها البيت القائل:

لما عظمت فليس مصر واسعي لما غلا ثمني عدمت المشتري

الجوزجاني يكمل سيرة الشيخ الرئيس

قال أبو عبيدة الجوزجاني صاحب الشيخ الرئيس: إلى ههنا انتهى ما حكاه عن نفسه ومن هذا الموضع أذكر أن ما شاهدته من أحواله في حال صحبتي له وإلى انقضاء مدته والله الموفق؛ قال:

كان بجرجان رجل يقال له أبو محمد الشيرازي يحب هذه العلوم وقد اشترى للشيخ داراً في جواره وأنزله بها وأنا اختلفت إليه كل يوم أقرأ المجسطي وأستملي المنطق، فأملى عليَّ المختصر الأوسط في المنطق وصنف لأبي محمد الشيرازي كتاب المبدأ والمعاد وكتاب الأرصاد الكلية وصنف هناك كتباً كثيرة كالأول القانون ومختصر المجسطي وكثيراً من الرسائل ثم صنف في أرض الجبل بقية كتبه وهذا فهرست جميع كتبه:

جميع مؤلفات ابن سينا كما ذكرها الجوزجاني

  1. كتاب المجموع مجلدة.
  2. كتاب الحاصل والمحصول عشرون مجلدة.
  3. كتاب البر والإثم مجلدتان.
  4. كتاب الشفاء ثماني عشرة مجلدةً.
  5. كتاب القانون أربع عشرة مجلدة.
  6. كتاب الأرصاد الكلية مجلدة.
  7. كتاب الإنصاف عشرون مجلدة.
  8. كتاب النجاة ثلاث مجلدات.
  9. الهدايا مجلدة.
  10. كتاب الإشارات مجلدة.
  11. كتاب المختصر الأوسط مجلدة.
  12. كتاب العلائي مجلدة.
  13. كتاب قولنج مجلدة.
  14. كتاب لسان العرب عشر مجلدات.
  15. كتاب الأدوية القلبية مجلدة.
  16. كتاب الموجز مجلدة.
  17. نقص الحكمة المشرقية مجلدة.
  18. كتاب بيان ذوات الجهة مجلدة.
  19. كتاب المعاد مجلدة.
  20. كتبا المبتدأ والمعاد مجلدة.
  21. كتاب المباحثات مجلدة.

ومن رسائله رسالة القضاء والقدر، الآلة الرصدية، غرض قاطيغورياس، المنطق بالشعر، القصائد في العظمة والحكمة، رسالة في الحروف، تعقب المواضع الجدلية، مختصر اقليدس، مختصر العجمية، الحدود، الأجرام السماوية، الإشارة إلى علم المنطق، أقسام الحكمة، النهاية واللانهاية، عهد كتبه لنفسه حي بن يقظان في أن أبعاد الجسم غير ذاتية له، الكلام في الهندبة، وله خطبة في أنَّه لا يجوز أن يكون شيء واحد جوهراً وعرضاً في أن علم زيد غير علم عمرو، رسائل له إخوانية وسلطانية، رسائل في مسائل جرت بينه وبين بعض الفضلاء، كتاب الحواشي، كتاب على القانون.

قصة ابن سينا وتأليف كتاب لسان العرب

وكان الشيخ جالساً في يوم من الأيام بين يدي الأمير وأبو منصور الجبان حاضر فجرى في اللغة مسألة تكلم الشيخ فيها بما حضره؛ فالتفت الشيخ أبو منصور إلى الشيخ يقول: إنك فيلسوف وحكيم ولكن لم تقرأ من اللغة ما يرضي كلامك فيها فاستنكف الشيخ من هذا الكلام وتوفر على درس كتب اللغة ثلاث سنين، واستدعى بكتب تهذيب اللغة من بلاد خراسان من تصنيف أبي منصور الأزهري فبلغ الشيخ في اللغة طبقة قلما يتفق مثلها وأنشأ ثلاث قصائد ضمنها ألفاظاً غريبة في اللغة، وكتب ثلاثة كتب أحدها على طريقة ابن العميد والثاني على طريقة الصاحب والثالث على طريقة الصابي، وأمر بتجليدها وإخلاق جلدها ثم أوعز إلى الأمير بعرض تلك المجلدة على أبي منصورٍ الجبان.

ذكر أنَّا ظفرنا بهذه المجلدة في الصحراء وقت الصيد فيجب أن تتفقدها وتقول لنا ما فيها، فنظر فيها أبو منصور وأشكل عليه كثير مما فيها، فقال الشيخ كلما تجهله من هذا الكتاب فهو مذكور في الموضع الفلاني من كتب اللغة وذكر له كتباً معروفة في اللغة كان الشيخ حفظ تلك الألفاظ منها وكان أبو منصور مجازفاً في ما يريده من اللغة غير ثقة فيها، فظن أبو منصور أن تلك الرسائل من تصنيف الشيخ وأن الذي حمله عليه ما جبهة به في ذلك اليوم فتنصل واعتذر إليه، ثم صنف الشيخ في اللغة كتاباً سماه بلسان العرب لم يصنف في اللغة مثله، ولم ينقله إلى البياض حتى توفي فبقي على مسودته لا يهتدي أحد إلى ترتيبه.

توفي الشيخ الرئيس عن ثمانية وخمسين عاماً

وأصاب ابن سينا المرض في سنواته الأخيرة، حيث يذكر الجوزجاني أنَّه كان يعالج نفسه ويبرأ من مرضه، ثم يعود إليه ثانية، كما يقول الجوزجاني واصفاً الأيام الأخيرة لأستاذه:

"فكان ينتكس ويبرأ كل وقت، ثم قصد علاءُ الدولة همذان، وسار الشيخ معه فعاودته في الطريق تلك العلة إلى أن وصل إلى همذان وعلم أن قوته فد سقطت وأنَّها لا تفي بدفع المرض؛ فأهمل نفسه وأخذ يقول: المدبر الذي كان يدبرني قد عجرز عن التدبير (والأغلب أنه يقصد بذلك علمه) والآن لا تنفع المعالجة".

توفي ابن سينا سنة 428 للهجرة/1073ميلادية، ودفن في همذان حيث كان عمره ثماني وخمسين سنة.

ختاماً... ما زال ذكر ابن سينا حاضراً إلى اليوم في الغرب والشرق، حيث يعتبر من أبرز علماء عصره ورمزاً من رموز النهضة العلمية الإسلامية، وفي الطب ثلاثة أسماء لامعة لا يمكن تجاهلها هم الزهراوي والشيخ الرئيس ابن سينا وابن النفيس، حيث كان لكل منهم إنجازاته العظيمة التي ما تزال خالدة حتى يومنا هذا.

القيادي الآن على واتس آب! تابعونا لكل أخبار الأعمال والرياضة