الحمرا تتنفس الفن.. أضواء الكوليزيه تشع بعد عقود من الغياب

  • DWWbronzeبواسطة: DWW تاريخ النشر: منذ يومين زمن القراءة: 6 دقائق قراءة
الحمرا تتنفس الفن.. أضواء الكوليزيه تشع بعد عقود من الغياب

في زاوية شارع الحمرا في بيروت حيث كان يعلق في السابق إعلان باهت ومائل عن حفل للمغني المصري محمد منير تظهر الآن لافتة جديدة: المسرح الوطني اللبناني. في 13 سبتمبر/ أيلول 2025 ستُضاء الأضواء هنا في سينما الكوليزيه Le Colisée العريقة لأول مرة منذ سنوات عديدة وستُرفع ستارتها.

"لطالما كان إحياء هذه السينمات القديمة وإعادتها إلى سابق عهدها حلما بالنسبة لي"، يقول قاسم استانبولي، الممثل والمخرج ومؤسس المسرح الوطني اللبناني. وقد أُعيد بالفعل بناء دور سينما في صور ونبطية وطرابلس وستعود قريبا إلى بيروت في حي الحمرا. "هذا يكمل حلمنا"، يقول قاسم ويضيف: "هذه السينما مهمة أيضا لأنها تحافظ على التقاليد وتصون كنوزنا الثقافية وهويتنا وذكرياتنا المشتركة كمجتمع، ليس فقط في بيروت بل في لبنان كله".

مركز الحياة الثقافية في بيروت

يحظى إستانبولي بدعم جمعية تيرو للفنون وشبكة من المتطوعين. وجميعهم يؤمنون بأن لكل شخص الحق في الفن بغض النظر عن أصله أو دينه أو انتمائه السياسي. إن إعادة فتح أبواب السينما الكوليزيه هو نتيجة هذه المبادرة المدنية وليس نتيجة سياسة ثقافية حكومية.

فقد كانت الحمرا في الماضي المركز الثقافي لبيروت. وفي ستينيات وسبعينيات القرن الماضي كانت المنطقة تضم العديد من دور السينما والمسارح وكانت العروض الأولى تستمر حتى ساعات متأخرة من الليل. وكانت فيروز وعادل إمام على المسرح، بينما كان موسيقيون مثل عبد الحليم حافظ وفريد الأطرش يترددون على مقهى الهورس شو Horse Shoe Café. هنا كتب الشاعر السوري نزار قباني قصائده وهنا ناقش المثقفون السياسة والشعر.

وكانت الحمرا الواقعة في غرب المدينة ولا تزال حتى اليوم مكانا يعيش فيه المسيحيون والمسلمون جنبا إلى جنب. وتحت تأثير القومية العربية اليسارية والعلمانية السائدة في ذلك الوقت جمع الحي بين الشرق والغرب والفن والسياسة والحياة اليومية والأفكار الكبيرة. وهكذا أصبحت الحمرا بوتقة حضرية تحدت الانقسامات في البلاد.

مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في عام 1975 (حتى عام 1990) تغير المشهد، ففي عام 1982 دخلت القوات الإسرائيلية إلى الشارع. بعد ذلك تبادلت الميليشيات السيطرة وألحقت الاشتباكات العنيفة أضرارا بالحي. وأصبح فندق كومودور في الحمرا مقرا للمراسلين الأجانب.

ورغم العنف كان الكثير من الناس يرتادون دور السينما في ذلك الوقت، لكن بعض القاعات دُمرت.

أنهت الحرب العصر الذهبي لحي الحمرا. بعد الحرب الأهلية انتقلت الأحداث الدولية إلى وسط بيروت الذي أعيد بناؤه. نجا حي الحمرا لكن معظم مسارحه أغلقت أبوابها، باستثناء مسرح مترو المدينة. اختفت دور السينما الكبيرة.

نهضة جديدة في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين

في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين خضعت الحمرا لعملية تجميل، فقد تم مد شبكات مياه وكهرباء جديدة ورصف الشوارع بالحصى. أعاد ذلك الحياة إلى المنطقة وإلى شارع الحمرا الذي يحمل الاسم نفسه. في المساء كانت السيارات تتكدس أمام الحانات والمطاعم، وكان طلاب الجامعات يتدفقون على المقاهي. وافتتحت العائلات السورية محلات تجارية وجلب جيل جديد من بيروت طاقة جديدة.

في هذا السياق يقول هيثم الذي يبلغ الآن منتصف الخمسينات من عمره: "منذ أن كنت صغيرا كنا نقضي الوقت في شارع الحمرا مع الأصدقاء والعائلة، فقد كان المكان ينبض بالحياة". قضى هيثم حياته كلها في الحمرا والمناطق المجاورة، ويقول عن ذلك: "أحيانا كان المكان مزدحما لدرجة أنه لا يمكنك أن تخطو خطوة في الشارع". وهو يتذكر تلك الأيام باعتزاز.

نعيم صالح يحب هو الآخر أن يتذكر الأوقات الذهبية للحمرا. إنه أحد رموز الحي. منذ أكثر من 54 عاما يبيع هو وعائلته الصحف والكتب في بداية شارع الحمرا، وقد ورث الكشك عن والده. في الماضي كانت المجلات والكتب الجديدة تتراكم، أما اليوم فلم يعد هناك من يشتريها. ومع ذلك لا يزال نعيم صالح موجودا يوما بعد يوم مع كشكه بينما تغلق المتاجر من حوله. في وقت أصبحت فيه الحمرا أكثر هدوءا يجسد نايم صالح تلك المثابرة التي تبقي الحي ولبنان أيضا على قيد الحياة.

الحمرا: بارومتر بيروت ولبنان

واليوم بعد الانهيار الاقتصادي الذي عصف بالبلاد منذ عام 2019، أصبحت الشوارع أكثر هدوءا. أُغلقت العديد من المتاجر وأغلقت المقاهي القديمة أبوابها. في وقت مبكر تغرق الحمرا في الظلام بسبب انقطاع التيار الكهربائي. لقد تركت الأزمة الاقتصادية آثارا عميقة، إذ فقدت العملة 90 في المائة من قيمتها. وقد ارتفعت الأسعار بشكل جنوني في بلد يعتمد على استيراد معظم احتياجاته.

لطالما كانت الحمرا بمثابة مقياس الزلازل في بيروت. فهي تجمع بين جميع التناقضات والانقسامات التي تعاني منها البلاد: من الجمود السياسي الذي ينعكس في المحلات التجارية المغلقة إلى الأزمة الاقتصادية التي دفعت حتى المقاهي التقليدية إلى الإفلاس.

وكما هو الحال في لبنان بأسره تعيش الحمرا على إرادة سكانها في الصمود. المبادرات الاجتماعية تبقي روح المدينة حية مثل السينما. كما حدث بعد الانفجار المدمر في مرفأ بيروت في أغسطس/ آب 2020، عندما غابت الدولة عن الساحة وقام الناس بأنفسهم بتنظيف المدينة وتوزيع الوجبات ومساعدة الجيران.

وحتى في خضم الأزمة تكتب حمرا قصة أخرى: في صيف 2024 أثناء ترميم سينما الكوليزيه كان النازحون من الجنوب ينامون بين مقاعد السينما، عائلات هربت من القصف الإسرائيلي في الصراع المسلح مع حزب الله. تحولت السينما مؤقتا إلى ملجأ. مكان يتنفس التاريخ ويخفف في الوقت نفسه من معاناة الحاضر.

يرى المخرج والممثل قاسم استانبولي أن هذا هو جوهر عمله: "نريد تجاوز الحدود الوهمية بين مناطق لبنان وربط الناس من خلال مساحات ثقافية مشتركة". ويوضح أن الهدف هو لامركزية الحياة الثقافية بحيث يمكن للمشاهدين والفنانين التنقل بين الشمال والجنوب، بين صور وطرابلس وبيروت. يجب أن تحافظ الثقافة على الهوية والذاكرة.

أوقات عدم الاستقرار السياسي في لبنان

لكن الافتتاح يأتي في وقت تشهد فيه المنطقة توترات سياسية. فقد قررت الحكومة الجديدة في بيروت نزع سلاح جماعة حزب الله المتشددة. ووافق مجلس الوزراء اللبناني على خطة أمريكية تقضي بوضع جميع الأسلحة تحت سيطرة الدولة بحلول نهاية العام.

وفي المقابل على إسرائيل أن توقف هجماتها المستمرة على لبنان وتسحب قواتها من الجنوب على الرغم من الهدنة القائمة. لكن لا توجد تفاصيل حول كيفية نزع السلاح. وقال الأمين العام الجديد لحزب الله نعيم قاسم: "ما دامت الاعتداءات مستمرة وما دام الاحتلال قائما لن نضع أسلحتنا".

وأضاف أنه سيتم خوض معركة ضد "المشروع الإسرائيلي الأمريكي" إذا لزم الأمر. وقال قاسم إن الحكومة الجديدة تتحمل وحدها المسؤولية في حال اندلاع صراعات داخلية.

بيد أن سينما الكوليزيه والعاملين فيها لا يكترثون للأوضاع المتوترة، فهم مصممون على تحويل السينما التي تأسست عام 1945 إلى مكان لإقامة ورش عمل ومسرح ومهرجانات وأرشيف للأفلام والفنون. ومن المقرر أن تصبح مكانا للتلاقي لا يقتصر دوره على إحياء ذكريات سنوات حمرا الذهبية، بل يظهر أيضا أن الحي يواصل إعادة اختراع نفسه رغم كل النكسات.

وربما سيقل عدد الجمهور أو يتغير عما كان عليه في الماضي، وربما ستستمر التوترات في البلاد، لكن عندما تنطفئ الأضواء في سبتمبر/ أيلول المقبل وتُرفع الستارة، ستعود الحمرا القديمة للحظة الحمرا التي قاومت الانقسام والتي - مثل لبنان بأكمله - لا تتوقف عن الإيمان بمستقبلها.

أعده للعربية: م.أ.م

القيادي الآن على واتس آب! تابعونا لكل أخبار الأعمال والرياضة