العلاقة بين المال والذهب واستخداماتها

  • بواسطة: بابونج تاريخ النشر: الأحد، 24 نوفمبر 2019 آخر تحديث: الخميس، 19 أغسطس 2021
العلاقة بين المال والذهب واستخداماتها

لطالما شكل المعدن الأصفر هاجساً قوياً للبشرية منذ العصور القديمة، لما يتمتع به من ميزاتٍ خاصة فيصفه البعض (بالمعدن الأبدي) كون بريقهُ وتكوينه يصمد بوجه الزمن ومتغيرات الطبيعة ولا يتغير.

فلا الأكسدة تنال منه ولا حتى الأحماض المركزة (عدا "الماء الملكي" والذي هو خليط بين حمض النتريك وحمض كلور الماء، سمي بهذا الاسم من قبل الخيميائيين؛ بسبب قدرته على إذابة المعادن الثمينة كالذهب والبلاتين).

هذه الصفات المميزة للذهب جعلت منه مادة قيّمة جداً منذ بداية الحضارة، فصُنعت منه تيجان الملوك وحلّي النساء وتماثيل الآلهة الوثنية كونه رمزاً للاستمرارية والأبدية والخلود.

الخيمياء: هي علم زائف انتشر في العديد من بقاع العالم وخصوصاً أوروبا، تتلخص أهدافه الأساسية في استخدام مواد كيميائية أو مجموعة من الممارسات والمعتقدات التي تنطبق عليها مواصفات العلم.

ولكنها لا تعد مثله لأنها لا تتبع طرائق المنهج العلمي، وتقوم على تحويل مواد إلى مواد أخرى وخصوصاً محاولة تحويل الرصاص إلى ذهب.

 

من المقايضة إلى المعادن الثمينة فالأوراق البنكية

مع بداية التجارة كانت المقايضة الطريقة الأفضل للتبادل التجاري، فلكل منتج أو خدمة قيمة مقابله، كالصوف مقابل القمح مثلاً أو البيض مقابل فلاحة الأرض.. إلخ.

وعلى الرغم من فاعلية هذه الطريقة لفترة زمنية معينة، إلا أن تبادل البضائع بشكل مباشر أدخل الناس في عمليات أكثر تعقيداً من من التبادل المباشر.

فكثيراً ما احتاج الناس إجراء عمليات تبادل متتالية للحصول على غايتهم النهائية، وللتوضيح: (من الممكن أن يمتلك  شخصاً ما "الملح" ويحتاج لخدمات "حداد" وهذا الحداد لا يحتاج الملح.

فحينها ربما يحتاج إلى تبديل الملح بالعسل ليبدله لاحقاً بكرسي خشبي يعطيه للحداد مقابل محراث حديدي وهكذا).

وجود هذه العمليات المتعددة لفت الانتباه لقابلية تلف البضائع المتداولة، ما أدى للبحث عن نظام آخر للتداول بحيث يكون ثمين القيمة وقابل للتداول.

وحول ذلك تشير الدراسات الأنتربولوجية (دراسات علم الإنسان) إلى أن الأمر بدأ مع استخدام قوالب ملحية مختومة في مناطق في أفريقيا.

حيث تقع اليوم دولة إثيوبيا، لكن سرعان ما اتجه نظر الجميع نحو المعادن النبيلة بعد اكتشاف (الذهب والفضة حينها حيث لم يكن قد تم اكتشاف البلاتين بعد).

بطبيعة الحال فالمظهر البراق بالإضافة لعدم التأثر بالعوامل الجوية أو المواد الكيميائية جعل هذه المعادن مثالية لمهمة التداول، وهنا تدخلت الحكومات لتنظيم عملية التداول.

حيث استبدلت  عملية  التبادل التجاري بالمعدن كما هو؛ بإصدار قطع نقدية معدنية من الذهب أو الفضة، وتم حفر رموز الدولة أو المدينة على العملة مما أعطاها قيمة اسمية معينة تعادل قوة شراء ما يتم مبادلته بالبضائع وفقها.

استمرار التداول بالمعادن الثمينة إلى أن تم ابتكار الأوراق البنكية بضمان الذهب والفضة

استمر ذلك حتى ابتكار الأنظمة البنكية الحديثة في أوروبا خلال عصر النهضة، حيث لعبت المدن الإيطالية مثل: فلورنسا وفينيسيا (البندقية) وجنوى دوراً هاماً في نقل التعامل من العملات ذات القيمة المباشرة إلى أوراق بنكية.

(هي ذاتها الأوراق النقدية أو النقود التي نستخدمها اليوم)، هذا الانتقال تطلب وجود أساس يعطي القيمة لهذه الأوراق؛ وكان هذا الأساس هو (ضمانة الحكومة أو البنك لوجود مخزون من الذهب والفضة يقابل الأوراق البنكية).

بحيث من الممكن استبدال هذه الأوراق بقيمتها الذهبية عند الحاجة لذلك.

وبهذه الطريقة انتقل التعامل التجاري من السلعة المباشرة إلى التعامل بقيمة "وعد الحكومة أو البنك" بأنه قادر على إعطاء القيمة النقدية للأوراق الصادرة عنه.

كما شكل هذا الانتقال التحول من النظام المباشر إلى النظام الائتماني، الذي ما زلنا نستخدمه حتى يومنا هذا، وقاد هذا التحول آنذاك بنوك إيطاليا الكبرى في القرن الرابع والخامس عشر (باردي، بيروتزي وميديتشي).

للتوضيح.. بنك ميديتشي كان البنك التابع للعائلة الحاكمة لجمهورية فلورنسا حينها، ويعود الفضل لهذه العائلة في رعاية وصنع أيقونات عصر النهضة المعروفة اليوم والتي كانت نتاج مايكل أنجلو ورافاييلو وليوناردو دا فينشي وغيرهم.

 

هل ربط العملة بالذهب خيار صحيح؟

قد تتساءل عزيزي القارئ: لماذا تخلت مجتمعاتنا عن الذهب ذو  القيمة المعروفة كأساس لتداول العملة؟ لماذا تم التخلي عن الاستقرار الذي يؤمنه الذهب؟

في الحقيقة.. إن النظام القائم على الذهب لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون مستقراً أو قابلا للاستمرار، فالمشكلة تبدأ من: 

  • حقيقة محدودية مخزون الذهب المسبوك الموجود لدينا من ناحية.
  • وعدم إمكانية مضاهاة استخراج الذهب للنمو الاقتصادي المتزايد من ناحية أخرى.

فلنفترض بغرض الشرح، وجود مخزون ذهبي مكون من طن متري (ألف كيلوغرام) من الذهب، وبإمكانك  إصدار عملة ولنعطها قيمة اسمية:

(بحيث أن غراماً واحداً من الذهب يساوي عشرة من عملتك)، ستجد بعد التداول بالعملة، أنه مع الوقت سينمو الاقتصاد بشكل متزايد ويزداد الطلب على العملة، وهنا أمامك خياران:

  • إما إصدار المزيد والمزيد من العملة مما سيخفض قيمتها الذهبية.
  • أو ألا تطرح المزيد من العملة في السوق، مما يثبت قيمتها الذهبية لكن يرفع قيمتها السوقية بشكل كبير.

وفي الحالتين.. العملة لن تمتلك قيمة ثابتة أبداً ومن غير الممكن اعتبارها مستقرة بأي حال من الأحوال.

إحدى  التجارب الفاشلة لتثبيت قيمة العملة وفقاً للذهب كان ما يسمى بتجربة "بريتون وودز" (Britton Woods)، حيث قامت الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية بمحاولة تثبيت قيمة الدولار الأمريكي وفقاً لاحتياطها الذهبي.

حيث حددت قيمة 35 دولار أمريكي لأونصة الذهب، مع مرور الوقت وشراء الدول الأوروبية للذهب من الحكومة الأمريكية.

كان من الواضح عدم قدرة الولايات المتحدة على الإيفاء بوعدها السابق، واضطرت إلى إيقاف التداول للحفاظ على الـ 8,100 طن متري من الذهب التي كانت لا تزال في احتياطها (من أصل ما يزيد عن 20,000 طن متري سابقاً).

وبذلك فشلت إحدى آخر المحاولات للاستمرار بربط العملة بالذهب.

 

انتشار العملة مرتبط بحجم الصادرات وقيمتها

مثلما بدأ الأمر في إيطاليا عصر النهضة، فالعملة اليوم مبنية على الثقة والوعود، فقيمة العملة تبنى على:

  • استقرار الحكومة (متمثلة بالمصارف المركزية) وقدرتها على الوفاء بوعودها والتزاماتها.
  • القوة الاقتصادية للبلد: من صناعة وتجارة وزراعة والأهم مدى الإقبال على صادراتها.

فالبلدان والاتحادات ذات الاقتصادات القوية والتصدير الكبير (مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان) تستطيع تحمل عبئ الحفاظ على عملة مستقرة نسبياً وقوية ومنتشرة.

(حيث أن الانتشار يرتبط بحجم الصادرات وقيمتها)، بينما البلدان ذات الاقتصادات الأضعف (البلدان النامية مثلاً) لا تستطيع ذلك مما يجعلها تعتمد أسلوباً مغايراً.

متمثلاً بتخزين احتياطي من القطع الأجنبي المرغوب (كالدولار واليورو والين) وتبني عملتها على أساس ارتباطها بهذا القطع الأجنبي.

فالمملكة العربية السعودية مثلاً تربط عملتها بشكل مباشر بالعملة الأمريكية بحيث يكون سعر الصرف 1 دولار أمريكي= 4 ريال سعودي وبهذا يكون سعر العملة السعودية مرتبطاً بشكل مباشر بالدولار الأمريكي.

فينخفض بانخفاضه ويرتفع بارتفاعه، وكذلك الكثير من الدول.

 

تأثر النقد بالحروب

كما ذكرنا سابقاً فالعملة اليوم قائمة على الثقة بالدرجة الأولى، فنحن نتعامل بالمال مع معرفتنا بوجود سلطة سياسية تضمن وتكفل قيمته وإلا لما تعدى بقيمته ثمن الطباعة التي يُطبع بها.

فالورق النقدي بحد ذاته مجرد من القيمة والشيء الوحيد الذي يعطيه القيمة؛ هو كفالة المصرف المركزي له (لذلك يوجد توقيع حاكم المصرف المركزي المسؤول على كل ورقة نقدية صادرة من ذلك المصرف المركزي).

إذاً المال ليس ذا قيمة بحد ذاته وإنما مبني على الثقة والوعود وهذه الثقة تتلاعب بقيمة العملة تماماً، ففي حال انخفاض الصادرات التكنولوجية الأمريكية مثلاً.

فالرغبة باقتناء الدولار الأمريكي ستنخفض باعتبار اقتصاده الداعم تعرض لضربة مؤثرة، هذا الشيء يزيد عرض البيع بينما يخفض قيمة الشراء وبالتالي السلع الأخرى تنخفض قيمتها الخاصة بالعملة.

بطبيعة الحال أي شيء يؤثر على الاقتصاد والثقة بالمصرف المركزي سيؤدي لانحدار سعر الصرف، ومن أمثلة  العوامل المؤثرة، الحروب والنزاعات والكوارث الطبيعية أو الكوارث التي يصنعها البشر على حد سواء.

 

ميزات العملات الإلكترونية لا تمتلكها أي عملات تقليدية

مع التقدم العلمي والتكنولوجي الهائل، أصبح الاتجاه نحو  التعامل الإلكتروني محط اهتمام الدول، حيث تم اختراع البطاقة البنكية للاستعاضة عن التعامل اليدوي بالعملة الورقية وبالتالي الحفاظ عليها من التلف.

وتكون البطاقة البنكية مشحونة بمبلغ معين من المال يمكنك استخدامها متى تشاء أو يمكنك استخدام الطريقة الأخرى من خلال امتلاكك لبطاقة ائتمانية.

أو حساب بنكي بتحويل المال عبر الانترنت أو البريد الالكتروني لعناوين مختلفة وهو ما يحصل في حالة خدمة PayPal الشهيرة على سبيل المثال.

هذا الاتجاه خلق ما يسمى اليوم بالعملات الإلكترونية، وهذه العملات ليست عملات صادرة عن بنك مركزي ما وليس لها أي تمثيل فيزيائي حقيقي.

بل هي مجرد سطور برمجية وخوارزميات ولوغاريتمات مكتوبة ومحملة على الشبكة العنكبوتية، وكما العملات الأخرى تتحدد قيمتها الشرائية بالعرض والطلب فالإلكترونية منها لا تختلف بذلك.

قد يستغرب البعض وجود إقبال على هذه العملات كونها لا تملك تمثيلاً فيزيائياً، ولكن نستطيع الإجابة على هذا التساؤل بأن العملات الإلكترونية تمتلك ميزات لا توجد في سواها.

فلنأخذ مثلاً أشهر هذه العملات والتي هي (Bitcoin) على سبيل المثال، فهذه العملة تعطي ميزات خصوصية مطلقة للمستخدم.

فلا أحد يستطيع معرفة أي تعاملات تقوم بها ولا يمكن كشف مصدر أو اتجاه أي عملية تحويل.

ويعود الفضل في ذلك لاستخدام تقنية التوجيه البصلي لتشفير العمليات التي تحدثنا عنها في مقال سابق (ما هي الشبكة المظلمة (Dark Web)؟).

للتوضيح: حققت عملة Bitcoin أعلى مستوى صرف لها في بداية عام 2014 بتعديها عتبة 1100 دولار أمريكي، بينما في لحظة كتابة هذا المقال فسعر الصرف يقف عند 577 دولار أمريكي.

تحديث: وصل سعر عملة البتكوين إلى 6540 دولار بتاريخ 14/11/2017.

 

هل من الممكن توحيد عملات العالم؟

قد يبدو توحيد عملات العالم فكرة جيدة للبعض، لاعتقادهم أن ذلك سيحفز المزيد من الاستقرار الاقتصادي. لكن هذه الفكرة غير قابلة للتطبيق اليوم لأسباب متعددة أهمها:

  • العملات المغلقة: رغم كون معظم عملات العالم حرة التداول وحرة أسعار الصرف، فما تزال الكثير من العملات ولعل أهمها اليوان الصيني "عملات مغلقة" غير متداولة وتمتلك سعراً إسمياً لا يتغير، هذا الأمر سيجعل من المتعذر بمكان توحيد العملات.
  • اختلاف التوجهات السياسية والاقتصادية: توحيد العملة يعني توحيد النظام المالي وبالتالي الاقتصادي أيضاً، وأي توحيد اقتصادي يتطلب توافقاً سياسياً على مستوى معين، وبالنظر للوضع الحالي أو التوقعات المستقبلية  للوضع السياسي فالأمر يبدو مستبعداً للغاية.
  • اختلاف مستويات الدخل: يوجد اليوم في العالم فوارق هائلة في مستويات الدخل بين عالم الشمال وعالم الجنوب، فدخل شهري من ألف دولار أمريكي مثلاً، لن يكون كافياً للحاجات الأساسية للحياة في الولايات المتحدة، لكن في بلدان كالهند أو مصر أو الدول الأفريقية؛ يعتبر هذا المبلغ معدل دخل مرتفع نسبياً.
 

هل بالإمكان التخلص من العملة؟

في النصف الثاني من القرن العشرين، انتشرت العديد من التيارات الفكرية الجديدة مع توجه عام مناهض للحكومات والسلطات والقوانين المجتمعية، كان أهمها حركة الـ (Beat Necks) والذين تبعهم الـ(Hippies) لاحقاً.

هؤلاء يتبنون اتجاهاً مناهضاً لوجود العملة بحد ذاتها كونها أحد أشكال نفوذ السلطة والحكم.

وتركز هذه التيارات على كون العملة دون قيمة بحد ذاتها (وهذا صحيح)، لكنها تتجاهل القيمة الفعلية لها والناتجة عن كفالة المصارف المركزية، بشكل مجرد.

فمن الممكن إلغاء العملات؛ لكن بذلك ينهار كامل النظام الاقتصادي والسياسي وحتى الاجتماعي.

اليوم.. نحن بحاجة لوسيط بشكل قطعي ولا يمكن لنا الاستمرار بالمعيشة الاجتماعية بالشكل الذي نعرفه دون هذا الوسيط؛ بالطبع فالوسيط من الممكن أن يكون بأي شكل سواء كان معدناً ثميناً أو أوراقاً نقدية.

أو حتى عملة إلكترونية، لكن في النهاية، اليوم لا نمتلك وسيطاً أفضل من العملة بالطريقة المعروفة وبشكل أخص الإلكترونية التي تشكل "وسيط وعملة المستقبل وسيدة الموقف لعالم اليوم".