الشعر الحلمنتيشي وأبرز شعرائه وقصائده

  • بواسطة: بابونج تاريخ النشر: الأحد، 24 نوفمبر 2019 آخر تحديث: الثلاثاء، 29 مارس 2022

يستجيب الشعر والأدب للظروف المختلفة كما تستجيب اللغة إلى ما حولها من مؤثرات، حيث عرف تاريخ الأدب العديد من المدارس والمذاهب الأدبية التي نتجت بشكل مباشرٍ أو غير مباشر عن مراحل حضارية محددة، كما تطورت لتستجيب لمراحل جديدة، ربما يكون المذهب العبثي أو مذهب اللامعقول هو المثال الأبرز على الاستجابة الأدبية للتغيرات الكبيرة التي تحيط بنا، حيث استجاب أدباء العبث لما نتج عن تبدلات في المفاهيم الإنسانية بعد الثورة الصناعية وما تلاها من حروب مدمرة، لكننا في مادتنا هذه نقف على نوع مختلف من الاستجابة، يمكن أن نعتبره احتيالاً على اللغة وعلى الرقيب في آن معاً، إنَّه الشعر الحلمنتيشي الذي نشأ في مصر وانتشر في السودان والحجاز.

الشعر الحلمنتيشي مواجهة مفتوحة مع المجتمع واللغة

برز الشعر الحلمنتيشي في مصر والسودان مطلع القرن العشرين، كما انتقل إلى الحجاز أيضاً، ومن المؤسف أنَّنا لم نجد الكثير من الدراسات العلمية الدقيقة التي توثق نشأة هذا النمط الشعري الحديث، لكننا سنحاول أن نحلل معاً العوامل التي أسهمت في رواج الشعر الحلمنتيشي في هذا الزمن تحديداً، حيث ترافق ظهور الشعر الحلمنتيشي مع النهضة الموسيقية والشعرية في مصر، التي تعد مركز نهضة الموسيقا والأغنية العربية في القرن العشرين.

فكان الشعر الحلمنتيشي بمثابة ردَّة فعلٍ على مجتمعات النخبة الشعرية والموسيقية في الزمن الذي ذاع فيه صيت شعراء المهجر الكبار وسطع فيه نجم أمير الشعراء أحمد شوقي، فوجد الشعر الحلمنتيشي نافذة ليطل على الجماهير منها، ليأخذ من السخرية التي أهملها الشعر الفصيح طريقاً إلى القلوب، كما جعل من اللهجة المحكية مادَّة رابطة بين كلمات القصيدة، فأصبحت القصيدة لا هي فصيحة ولا هي عامية، سمتها الأساسية أنَّها ساخرة ومغرقة في الشعبية.

هذه المميزات تجعل من الحلمنتيشي رافداً مستقلاً من روافد الشعر

هناك بعض المميزات التي تجعل من الحلمنتيشي نمطاً فريداً يختلف عن الشعر العامي أو المعروف بشعر المحكية، وتجعله متميزاً في نفس الوقت عن شعر الفصحى، منها:

تهجين اللغة العربية بالمحكية

الميزة الأبرز التي تبدو لنا مع بداية القصيدة الحلمنتيشية هي تهجين اللغة العربية الفصيحة مع اللهجة المحكية، حيث لجأ شعراء الحلمنتيشي إلى استخدام الكلمات العامية الدارجة بل الأكثر شيوعاً وغرابةً، لكنهم منحوها نكهة الفصحى من خلال تشكيلها واستخدام التنوين ووصلها مع ضمائر الفصحى وأدواتها، أو إبقائها على لفظها العادي، كما يلتزم الحلمنتيشي بالأوزان السماعية غالباً.

السخرية شرط لازم للحلمنتيشي

عرف الشعر نمط السخرية قديماً، لكنَّ الحلمنتيشي اعتبر أنَّ السخرية شرطٌ لازمٌ لتمام هذا النوع، فالقصد من القصيدة أن تصل إلى الناس من باب الفكاهة والسخرية، وهذه السخرية لم تكن فقط سخرية معنوية بل أيضاً سخرية لغوية، فمكان وضع الكلمة العامية يكون مدروساً بين مجموعة من كلمات الفصيحة حتى تبدو مضحكةً أكثر، وكأنَّها انزلقت دون قصد أو صدرت عن الشاعر فجأة.

وعندما نراجع ما قدمه شعراء المحكية المصرية من السخرية سنجد أرشيفاً كبيراً عندهم، لكنهم لم يعتمدوا على أن تكون الكلمة بحد ذاتها من حيث لفظها وموقعها مثيرة للضحك، بل اعتمدوا على المفارقة في القصة الشعرية أو على الفكرة الساخرة بحد ذاتها، أمَّا الحلمنتيشي فأضاف اللعب بالكلمة لتكون مضحكة بحد ذاتها، كما أنَّنا نجد عند الشاعر المصري فؤاد حداد استخداماً كثيفاً لتراكيب العربية الفصحى في سياق العامية لكن في إطار جاد لا تبدو معه أي محاولة للتهجين بل يبدو استخدام أدوات الفصحى وكلماتها مقصوداً لجعل النص أكثر جديَّةً.

موضوعات الحلمنتيشي

تساعد بنية القصيدة الحلمنتيشية على تناول موضوعات مختلفة بمدى أهميتها، فالموضوع في القصيدة الفصيحة يطغى على الصناعة اللغوية بينما ينخفض تأثيره مع رقَّة العامية، أمَّا في الحلمنتيشي فالقصيدة تؤدي مرادها مهما كان موضوعها، لذلك سنجد الكثير من مواضيع الحلمنتيشي تنتمي إلى الفئة البسيطة والهامشية حيث تستطيع القصيدة بطريقة بنائها الساخرة أن تصل إلى القارئ أو المستمع ببساطة.

المعارضة الشعرية

لجأ شعراء الحلمنتيشي إلى المعارضة الشعرية منذ البداية، حيث عارضوا قصائداً مشهورة لكبار الشعراء من مختلف العصور، والمعارضة في الحلمنتيشي هي أخذ المطلع والسير على وزنه وقافيته، إضافة إلى استخدام استعارات الشاعر الأصلية أحياناً، وسنلاحظ هذه المعارضات في الفقرات القادمة.

ضوابط الحلمنتيشي

من الأشياء البارزة في الشعر الحلمنتيشي أنَّه يتخلى عن الكثير من الضوابط اللغوية والشعرية من حيث الشكل، فهو أصلاً ثورة على شكل القصيدة الفصيحة أو العامية الجادَّة وانتقال بالشعر من الصالونات إلى الشارع.

الحلمنتيشي السوداني والحلمنتيشي السعودي

عرف الشعر السوداني نمطاً من الشعر الحلمنتيشي أيضاً، لكن الحلمنتيشي السوداني يعتبر أقرب إلى كوميديا الموقف منه إلى كوميديا الكلمة بذاتها التي يتبعها الحلمنتيشي المصري، كما أنَّ اللهجة السودانية المحكية بطبيعتها تمتلك الكثير من المفردات العربية الفصيحة ما يجعل مهمة تهجينها صعبة قليلاً، ومن رواد الحلمنتيشي في السودان الشاعر محمد علي عبد المجيد، والشاعر محمد الصراف.

كذلك ظهر في السعودية اسم بارز من أهم شعراء المملكة احترف أيضاً الشعر الحلمنتيشي إلى جانب الشعر الفصيح، هو الشاعر أحمد القنديل وله العديد من القصائد من هذا النمط والمعروفة بالـ (قنديليات) أو الحلمنتيشات.

ما زال الشعر الحلمنتيشي حديثاً نسبياً لكن له رواده من كبار الشعراء

على الرغم من حداثة الشعر الحلمنتيشي لكننا سنجد أنَّ له متابعين كثر، كما أن له رواده وربما سيكون له نقاده في المستقبل القريب، لكن بمجرد أن نتحدث عن هذا النمط الشعري سنجد أنفسنا أمام اسمين كبيرين، الأول هو الشاعر حسين شفيق المصري، والثاني هو الشاعر بيرم التونسي.

حسين شفيق المصري (1882-1948)

يعتبر حسين شفيق المصري أبرز رواد الشعر الحلمنتيشي إن لم نقل أنَّه مؤسسه، وقد عمل المصري صحفياً ساخراً في العديد من الصحف والمجلات كما ترأس تحرير مجلة (فكاهة)، وكان معاصراً لنجيب الريحاني أبرز مؤسسي المسرح الكوميدي في مصر كما قدم له بعض النصوص، وهذا يعني أنَّه عاصر نهضة سيد درويش وبديع خيري والعديد من الشخصيات التي تعتبر من مؤسسي مرحلة النهضة، ويُعتقد أن حسين شفيق المصري هو من سمَّى الشعر الحلمنتيشي بهذا الاسم، لكن من المؤسف ألَّا مصادر موثوقة بهذا الخصوص، فربما كان القصد من ذلك هو أن تكون الكلمة بحد ذاتها غريبة وساخرة (حلمنتيشي)، كما قدم ما عرف بـ (المشعلقات) وهي محاكاة للمعلقات على طريقته.

كتب المصري العديد من القصائد بالعربية الفصحى والمحكية المصرية إلى جانب الشعر الحلمنتيشي ومنها المشعلقات، حيث يعارض معلقة عمرو بن كلثوم (أَلاَ هُبِّي بِصَحْنِكِ فَاصْبَحِيْنَـا وَلاَ تُبْقِي خُمُـوْرَ الأَنْدَرِيْنَـا) فيقول:

ألا هبي بصحنك فأطعمينا‏ ولا تبقي فراخاً أو طجينا‏

محمرة يتوه الرز فيها‏ إذا ما السمن خالطها سخينا‏

فهاتي ما استطعت من الصواني‏ ولا تنسي السلطة والطحينة‏

إذا ما اللحم جاء أمام عيني‏ فلن أعرف سعاداً من أمينة‏

بيرم التونسي (1893-1961)

هو محمود بيرم التونسي واحد من أبرز رموز الشعر في القرن العشرين، كتب كلمات الأغاني لكبار المغنين مثل سيد درويش وأم كلثوم وسيد مكاوي وسعاد محمد وغيرهم الكثير، ربما أبرز أغانيه أغنية غنيلي شوي شوي، وبرضاك، الورد جميل، أنا في انتظارك، والعديد من الأغنيات الخالدة، كما أنشأ بيرم التونسي جريدة المسلَّة وكتب العدد الأول كاملاً في 14 صفحة من مقالات وقصائد، ومن بين ابداعاته اتجه التونسي إلى الشعر الحلمنتيشي فقدم مجموعة من القصائد من هذا النمط وقد عارض فيها كبار الشعراء، أبرزها معارضة ابن الفارض (أنتم فروضي ونفلي‏ أنتم حديثي وشغلي)‏:

أنتم فروضي ونفلي‏ أنتم حديثي وشغلي‏

أهل الكلوب ومالي‏ عن الكلوب تخلي‏

قضيت فيه حياتي على سبيل التسلي‏

الناس تلعب يوماً وكان لعبي تملي

كفى بجسمي دليلاً‏ وشعري المتدلي‏

و«بدلةٌ» ليس فيها من النظافة ملي

وجزمةٌ بنتُ كلبٍ‏ منها ترى الناس رجلي‏

ياسر قطامش ومصطفى رجب من رواد الحلمنتيشي الحديث

يعتبر الشاعر المصري ياسر قطامش أبرز شعراء الحلمنتيشي في عصرنا هذا، وهو عمُّ الشاعر عمر قطامش الذي حصل على المركز الأول في مسابقة (Arabs Got Talent) في موسمها الأول عام 2011، حيث يعتبر ياسر قطامش من الشعراء البارزين والأكثر تدويناً في الشعر الحلمنتيشي والقصص الساخرة، ومن قصائده معارضته للأطلال (يا فؤادي لا تسل أين الهوى):

يا فؤادي لا تسل أين الجنيه

إنَّه مات فقف وابكي عليه

اسقني واشرب على أطلاله

قهوة من أدمعي أو نسكافيه

ويعتبر الشاعر مصطفى رجب أيضاً من رواد الحلمنتيشي، ومن قصائده:

قالت وقد بصَّت عليّ : عوافي ! وتدلعت في ثوبها الشفافِ

وتحايلت وتخايلت وتمايلت حتي سَبَت عقلي بغير سُلافِ

قالت : أأنت من العجوزة يا فتي؟ أم أنت جِلف من بني الأريافِ؟

إني أراك مُهندماً ومؤدبـــاً وعليك قنطار من الأصوافِ

لكن لمحتُك في الطريق تبصُ لي وتكاد تقضم من لحوم كتافي

مختارات من الشعر الحلمنتيشي للشاعر عمر قطامش

بعد مشاركته في برنامج مواهب العرب في موسمه الأول استطاع الشاعر والكوميديان المصري عمر قطامش أن يحقق انتشاراً كبيراً على مستوى العالم العربي، ومن قصائده التي تحدثت عن ثورة الخامس والعشرين من يناير قصيدة (السيس):

قالوا عني شابٌ سيس لا أعرفُ غير التهييس

وثقافةُ عمري تتلخصُ في شاتِ الياهو والفيس

بنطالي يسقطُ عن وسطي شبرين كشابٍ خنفيس

وأقول الهاي (Hi) وأتبعها بالثانكس أو مان أو بيس

وأتفتفُ في شَعري جِيلاً أو بالتوكة والدبابيس

أتقبل منك السب، وأقبل قولك إني سيس

فبصرخة شابٌ سيس سقط نظام ورئيس

الملط أفندي على نهج نزار قباني

إن كنت حبيبي سلفني فأنا ع الجنط

أمي ترفض أن تقرضني وكذلك طنط

إن كنت حبيبي ساعدني فأنا مزنوق

والديانة قد وقفوا لي مثل الخازوق

اشتقت إليك فسلفني سيجارة "كنت"

علمني كيف بلعت الأكل وكيف سمنت؟

إن كنت حبيبي ساعدني كي أرحل عنك

ولكي تخلص منى اكتب لي شيكاً ع البنك

غزل حلمنتيشي

نظراتك شاطت لي كرة دخلت في الجون وملعوبة

وخدودك (لانشون وسجق) كالسلع الفالصو المضروبة

...وأراني بقبحك مفتونا رحماك بقى (حني النوبة)

اعطيني حضنا يفعصني هيا وسأنوي على (التوبة)

ختاماً... كما ذكرنا؛ لا يمكن اعتبار الشعر الحلمنتيشي خارجاً عن الضرورة التي فرضها زمن ظهوره وتطوره، فهو ثورة على اللغة في وقت ابتعد فيه الكثيرون عن الشعر بسبب عجزهم عن التعامل مع مفرداته، وهو ثورة في الموضوع في زمن أصبحت فيه السخرية جزءاً من الحياة اليومية التي لا يمكن أن تمرَّ بلا سخرية، ويبقى تطور هذا النمط الشعري واستمراره مرتبطاً أيضاً بظروف نشأته.

القيادي الآن على واتس آب! تابعونا لكل أخبار الأعمال والرياضة