عمر بن عبد العزيز.. الخليفة العادل وخامس الخلفاء الراشدين

تبوأ الخليفة عمر بن العزيز مكانة عظيمة في التاريخ الإسلامي، فهو من جهابذة أئمة الإسلام وأعظم قاداتها، وما يزيدك حيرة وعجبًا أنه تبوأ هذه المكانة ومدة خلافته سنتان وبضعة أشهر فقط قدم فيها لأمته وشعبه عظيم الإنجازات التي احتاج غيره من الحكام سنوات وعقود ليصلوا إلا ما وصل إليه في سنتين فقط.

حياة عمر بن عبد العزيز ونشأته

أبو حفص عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي القرشي هو ثامن الخلفاء الأمويين ولد سنة 61 هـ في المدينة المنورة، وعاش في بيت أخواله آل عمر بن الخطاب فتأثر بمجتمع الصحابة في المدينة.

والده هو عبد العزيز بن مروان بن الحكم من أمراء بني أمية وكان أميرًا على مصر لأكثر من عشرين سنة، ووالدته هي أم عاصم ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب.

كان عمر من المقبلين للعلم المحبين له وكان يحرص على ملازمة مجالس العالم، فتعلم القرآن وهو صغير وساعده على ذلك قدرته على الحفظ، وكان يبكي لذكر الموت.

وتربى عمر على أيدي كبار فقهاء المدينة وعلمائها، واختار له والده صالح بن كيسان ليكون معلمًا ومربيًا له فتولى تأديبه وتعليمه الدين والأخلاق.

ومن شيوخ عمر الذين تأثر بهم عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وكان مفتي المدينة في زمانه، وأحد الفقهاء السبع، ومن شيوخه أيضًا سعيد بن المسيب، وسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وبلغ عدد الشيوخ الذي تعلم على أيديهم ثلاثة وثلاثين.

تزوج عمر من فاطمة بنت عبد الملك التي قال فيها الشاعر:

بنت الخليفة والخليفة جدها            أخت الخلائف والخليفة زوجها

فهي ابنة الخليفة عبد الملك ابن مروان، وحفيدة الخليفة مروان بن الحكم، وأخت الخلفاء الوليد بن عبد الملك، وسليمان بن عبد الملك، ويزيد بن عبد الملك، وهشام بن عبد الملك، وزوجة الخليفة عمر بن عبد العزيز، وأنجبت فاطمة له إسحاق، ويعقوب، وموسى.

ومن زوجاته أيضًا لميس بنت علي بن الحارث، وولدت له عبد الله، وبكر، وأم عمار، وتزوج أم عثمان التي ولدت له إبراهيم، وكان لعمر أربعة عشر ابنًا، وثلاث بنات، وفي رواية أخرى تذكر أن له اثني عشر ابنًا وست بنات.

عمر بن عبد العزيز في عهد الوليد بن عبد الملك

كان لعمر أثر كبير في نصح الخلفاء وتوجيههم بالمشورة والرأي واحتل مكانة كبيرة في البيت الأموي، وفي عهد ولاية عمه عبد الملك لم يتول القيادة بسبب صغر سنه وانشغاله بطلب العلم، ولكن يُقال إن عمه ولّاه على "خناصره" ليتدرب على أعمال القيادة في سن مبكرة.

وبعد وفاة عبد الملك تولى بعده الخلافة الوليد بن عبد الملك، وفي ربيع الأول من عام 87 هـ ولّاه الخليفة الوليد على إمارة المدينة وضم إليه ولاية الطائف ثم صار واليًا على الحجاز كلها، واشترط عمر ليتولى الإمارة 3 شروط، وهم:

• الشرط الأول: أن يعمل بالعدل والحق ولا يظلم أحدًا ولا يجور على أحد.
• الشرط الثاني: أن يسمح له بالحج في أول سنة؛ لأن عمر لم يحج في ذلك الوقت.
• الشرط الثالث: أن يسمح له بالعطاء في المدينة.

ولما وافق الوليد على هذه الشروط باشر عمر ولايته على المدينة، وأول ما قام به كوّن مجلسًا للشورى سمّاه "مجلس فقهاء المدينة العشرة" وهو مكون من عشرة من فقهاء المدينة للأخذ بمشورتهم ورأيهم في الحكم، ولرده إذا رأوا منه ظلمًا.

وفي إمارته على المدينة وسّع المسجد النبوي وزخرفه بأمر الوليد وكان كارهًا لذلك، وفي سنة 92 هـ استعفى عمر من المدينة بسبب عقد الخليفة الوليد لواء الحج للحجاج بن يوسف الثقفي، وكان عمر يكره الحجاج ولا يطيق أن يراه لما هو عليه من الظلم فامتثل الوليد لرغبة عمر.

وبعد خروجه من المدينة انتقل إلى دمشق واستقر في السويداء، ثم رأى بعد ذلك أن مصلحة المسلمين تقتضي أن تكون إقامته في دمشق بجوار الخليفة فانتقل إلى دمشق، ولم يكن على وفاق تام مع الخليفة الوليد لذا إقامته في الشام لم تخلُ من مشاكل.

حيث كان يعتمد الوليد في تثبيت حكمه على ولاة أقوياء قساة لإخضاع الناس حتى لو رافق ذلك الكثير من  الظلم، بينما يرى عمر أهمية إقامة العدل بين الناس، وأنه كفيل باستقرار المُلْك.

وبعد وفاة الوليد ابن عبد الملك تولى أخاه سليمان الخلافة، وبمجرد تولي سليمان بن عبد الملك الخلافة قرّب إليه عمر بن عبد العزيز وظهرت آثاره في مختلف الجوانب، ومن أهم القرارات التي أخذها سليمان بمشورة عمر هي عزل الحجاج وبعد الولاة الآخرين، كوالي مكة، ووالي المدينة أيضًا أمر بإقامة الصلاة في وقتها.

توليه الخلافة بعد سليمان بن عبد الملك

في أثناء مرض سليمان بن عبد الملك اقترح الفقيه رجاء بن حيوة الكندي أن يولي عمر بن عبد العزيز خليفة له، وفي أول خطبة بعد استخلافه قال خطبته الشهيرة التي قال فيها:

"يا أيها الناس، من أطاع الله وجبت طاعته، ومن عصى الله فلا طاعة له، أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم. وإن من حولكم من الأمصار والمدن، فإن هم أطاعوا كما أطعتم فأنا وليكم، وإن هم نقموا فلست لكم بوالٍ."

وعقدت الخلافة لعمر في يوم الجمعة من شهر صفر سنة 99 هـ، وكانت أول أعماله بعد الخلافة إيقاف التوسع في المناطقة النائية في أطراف الدولة، ومحاولة سحب القوات الإسلامية من مناطق القتال.

وولى السمح بن مالك الخولاني واليًا على الأندلس، وفي بلاد السند كتب إلى الملوك ليدعوهم إلى الإسلام، وكانوا يعلمون سيرته ومذهبه فأسلم جيشه والملوك. وفي أذربيجان أغار الترك على المسلمين فأمر عمر حاتم بن النعمان الباهلي بقتل أولئك الترك فقتل بعضهم وأسر الباقي.

في سنة 100 هـ أمر بإعمار ساحل اللاذقية بعدما هدم الروم المدينة وسَبوا أهلها، وكان في إدارته لدولته حازمًا شديدًا في أخذ الحق والدفاع عنه.

إدارة دولته

وفي إدارة دولته تميزت خلافته بالعديد من المميزات، وأهمها العدل فكان يرى أن مسؤوليته كخليفة على المسلمين القيام بحقوق الناس، وتحقيق مصالحهم المشروعة، ورد المظالم إلى أهلها وكان يرد المظالم بنفسه.

وكان يرى أن أول ما ينبغي القيام به في رد المظالم أن لا يبدأ بأول من نفسه، فنظر إلى ما في يده من متاع وأرض وأخرجها، حتى أنه نزع حلي سيفه من الفضة وحلّاه بالحديد، وباع كل ما كان به من متاع وأرض وبلغت قيمتها ثلاثة وعشرين ألف دينار فجعله في السبيل، وبعدها التفت إلى المال الذي كان يأتيه من جبل الروس باليمن فرده إلى بيت مال المسلمين.

وبعد أن بدأ بنفسه في رد المظالم اتجه إلى أهل بيته، فقد رأى أنهم أدخلوا الكثير من مظاهر السلطان لم تكن موجودة في عهد النبي صلى الله  عليه وسلم أو خلفاءه، وأنفقوا الكثير من المال من أجل الظهور بمظاهر العظمة، فأمر ببيع هذه الزينة وضم ثمنها إلى بيت مال المسلمين.

كذلك أمر بعزل جميع الولاة الظالمين ومنهم خالد بن الرياس صاحب حرس سليمان بن عبد الملك، وعيّن مكانه عمرو بن مهاجر الأنصاري، كما عزل أسامة بن زيد التنوخي الذي كان على خراج مصر لأنه كان ظالمًا يعتدي في العقوبات بغير ما أنزل الله فكان يقطع الأيدي دون تحقق شروط القطع.

كذلك اهتم في ولايته العمل بالشورى ومن أقواله "إن المشورة والمناظرة باب رحمة ومفتاح بركة لا يضل معهما رأي، ولا يُفقد معهما حزم" وأول ما قاله حينما تولى الخلافة:

"أيها الناس، إني قد ابتليت بهذا الأمر من غير رأي كان مني فيه، ولا طلبة له ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي"

وبذلك فقد خرج من مبدأ توريث الولاية وأخذ بمبدأ الشورى والانتخاب، كما أخذ برأي المسلمين في الأمصار الأخرى، ولما بايعت الأمصار الإسلامية عمر قرر تولي الخلافة.

وفي خلافته كان يستشير العلماء ويطلب نصحهم، فيقول: إني قد ابتليت بهذا الأمر فأشيروا عليّ. وقد حرص على اختيار ذوي العقول الراجحة وأبعد عنه أصحاب المصالح الدنيوية والمنافع الخاصة.

أيضًا اهتم بنشر العلم بين رعيته وتعريفهم الدين، لذا بعث العلماء إلى أقاليم الدولة لتعليمهم الدين ونشر العلم، كما أمر بزيادة رواتب العلماء ليتفرغوا في نشر العلم، وأرسل عشرة من الفقهاء إلى أفريقيا ليفقهوا أهلها في الدين.

ورأى عمر أنه من المهم تدوين الحديث بسبب خوفه على ضياعه ودسّ الأحاديث المكذوبة وخلطها بالصحيح فأصدر أوامره بجمع سنن النبي وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وتدوينها، وجعل هذا الأمر من مسؤوليات الدولة.

وقال ابن حجر العسقلاني في ذلك: "وأول من دوّن الحديث ابن شهاب الزهري على رأس المائة بأمر عمر بن عبد العزيز، ثم كثر التدوين ثم التصنيف، وحصل بذلك خير كثير، فلله الحمد."

كيف مات عمر بن العزيز؟

اختلفت الروايات في مرض عمر وموته، وتذكر إحدى الروايات أن مرضه كان بسبب الخوف من الله تعالى والاهتمام بأمر الناس، ولكن ذُكر سببًا آخر في موته أنه شرب السم بسبب ضيق بني أمية من سياسته التي قامت على العدل وحرمانهم من ملذات الدنيا.

حيث رد عمر المظالم التي كانت بأيديهم وحال بينهم وبين ما يشتهون فوضعوا السم في شرابه، كما قيل إنه مات بسبب السل.

وتوفي عمر يوم الجمعة في شهر رجب سنة 101 هـ، واستمرت خلافته سنتان وخمسة أشهر وأربعة أيام، وتوفي وهو ابن تسع وثلاثين سنة، وفي رواية أخرى توفي وهو بعمر الأربعين.

وكتب عمر إلى يزيد بن عبد الملك وهو مريض وأوصى بتولي يزيد بن عبد الملك الخلافة من بعده وأوصاه بتقوى الله والاهتمام بالرعية.

دُفن عمر في قرية دير شرقي في شرق مدينة معرة النعمان في محافظة إدلب في سوريا، وبُنى ضريحه في العهد المملوكي.