الخليل بن أحمد الفراهيدي، مؤسس علم العروض

  • بواسطة: بابونج تاريخ النشر: الأحد، 24 نوفمبر 2019 آخر تحديث: الخميس، 09 يونيو 2022

أمسك ناصية اللغة العربية، لكنه لم يمسك بناصية الدنيا، بل كان زاهداً بكل مِتاعها، خاض في تفاصيل النحو والشعر، إلا أنه لم يشتهر بقصائده القليلة التي كتبها، لأنه قبل ذلك كان العالم اللغوي الذي رسم الطريق للنحاة والشعراء واللغويين، الخليل بن أحمد الفراهيدي مؤسس علم العروض، العالم اللغوي الذي تتلمذ على يده كبار علماء اللغة والشعراء، استقرأ أشعار العرب وحدد أوزانها، صاغ القواعد التي تُبنى عليها موسيقى القصيدة ونغمها، فما نظريته العروضية؟ وكيف أسس وقسّم بحور الشعر؟

من هو الخليل بن أحمد الفراهيدي

هو أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمرو بن تمام الفراهيدي الأزدي اليحمدي، والمعروف اختصاراً بالخليل بن أحمد الفراهيدي. ولد الفراهيدي في عام 718م في عُمان، ثم انتقل ليعيش في البصرة، كان واحداً من أوائل مؤلفي المعاجم وعلماء اللغة العربية، أما لقبه الفراهيدي فلم يكن نسبةً إلى قبيلته التي أتى منها، إنما نسبةً إلى أسلافه الذين أُطلق عليهم اسم الفرهود (الفرهود في اللغة يأتي بمعنى ابن الأسد)، وعلى خلاف الآخرين في ذلك الوقت، لم يكن آل الفراهيدي يقبلون الهدايا السخية من الملوك كما لم يقبلوا التكسب، لذلك عاش الفراهيدي حياةً بسيطة لا تحتوي على مظاهر الترف.

الفراهيدي أستاذ سيبويه والأصمعي

تعلم الفراهيدي علوم النحو واللغة، كما الفقه، على يدي أستاذه أبي عمرو بن العلاء (كان من علماء اللغة المعروفين بإلمامهم الواسع في علوم اللغة كذلك الفقه والقرآن الكريم). كان من أشهر تلاميذ الخليل بن أحمد الفراهيدي فيما بعد سيبويه والملقب بإمام النحاة (وهو أول من بسط علم النحو)، بالإضافة إلى عبد الملك الأصمعي الذي اشتهر بإجادته للشعر وملكته في الحفظ كما إلمامه بعلم النحو، وقد أفنى الفراهيدي حياته في نهل العلم وتدريس طلبته، وتظهر شدة حبه للعلم في البيتين اللذين قالهما يصف ما يمكن أن يضفيه العلم والأدب على صاحبهما (الأبيات من البحر البسيط وتفعيلاته هي: مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن):

العلمُ يذكي عقولاً حين يصحبها ... وقد يَزيدُهما طولُ التّجاريبِ

وذو التأدّبُ في الجهال مغتربٌ ... يرى ويسمعُ ألوان الأعاجيبِ

كان الفراهيدي زاهدا في الدنيا

عرف عن الخليل بن أحمد زهده بالحياة الدنيا، فكان _أثناء فترة وجوده في البصرة_ يعيش داخل كوخٍ مصنوعٍ من القصب، يثابر في علمه، ولا يخرج أبعد من عقله وبابه، حيث كان منكباً على العلم، لا يكترث بالمال والمكاسب المادية، على الرغم من أن الكثير من تلامذته جمعوا الثروة وكانوا ذي نعيم مستفيدين من العلم الذي أخذوه عن الفراهيدي، إلا أن الفراهيدي لم يأبه بذلك، وفي حادثةٍ حصلت مع الفراهيدي _تظهر عدم تمسكه بالمكاسب_ إذ أرسل سليمان بن حبيب (والي الأحواز في ذلك الوقت) رسولاً إلى الفراهيدي يبلغه أن يذهب إلى الوالي _وكان الوالي يمنح الفراهيدي راتباً يعيش من خلاله_ فرفض الفراهيدي الذهاب وخرج بخبزٍ يابسٍ إلى رسول الوالي، ليظهر له أن هذا الخبز كافياً ليعيش من خلاله الخليل، دون أن يتذلل لأحد، و على إثر هذا الحدث قال قصيدته حيث يجريها على البحر البسيط، والتي يقول فيها:

أَبلِغ سُلَيمانَ أَنّي عَنهُ في سَعَةٍ ... وَفي غِنىً غَيرَ أَنّي لَستُ ذا مالِ

سَخّى بِنَفسي أَنّي لا أَرى أَحَداً ... يَموتُ هَزلاً وَلا يَبقى عَلى حالِ

الرِزقُ عَن قَدَرٍ لا الضَعفُ يَنقُصُهُ ... وَلا يَزيدُكَ فيهِ حَولُ مُحتالِ

إِن كانَ ضَنُّ سُلَيمانَ بِنائِلِهِ ... فَاللَهِ أَفضَلُ مَسؤولٍ لِسُؤالِ

وَالفَقرُ في النَفسِ لا في المالِ نَعرِفُهُ ... وَمِثلُ ذاكَ الغِنى في النَفسِ لا المالِ

أهم إنجازات الفراهيدي في اللغة والأدب

كان للفراهيدي خلال حياته العديد من الإنجازات والإضافات التي أثرَت في اللغة والأدب والشعر العربي، أهم هذه الإنجازات:

  • ابتكاره الفتحة والضمة والكسرة كعلامات إعرابية.
  • تدوينه أول معجم لغوي رصد فيه جميع مفردات اللسان العربي، وهو معجم لأصول المفردات العربية اسمه معجم "العين"، حيث اعتمد فيه ترتيباً يقوم على أساس طبيعة المخارج الصوتية للحروف.
  • تأسيس علم "العروض"، الذي و ضع فيه القواعد الحاكمة لميزان الشعر وموسيقاه، إذ كان اعتماده على منهج الوصف والتحليل باستقراء الشعر الجاهلي والإسلامي والأموي.

نظرية الخليل الفراهيدي في علم العروض

إن الأساس الذى تقوم عليه نظرية الخليل بن أحمد في ضبط أوزان الشعر هو الإيقاع في الشعر العربي، الناشئ من توالي الحروف المتحركة والساكنة في نظام خاص، حيث اكتشف أنه من الصعوبة بمكان أن يتوالى أكثر من أربعة أحرف متحركة في الشعر العربي، كما لا يمكن أن يتوالى ساكنان، إلا في قوافٍ مخصوصة، ومن خلال استقرائه للأنماط المختلفة لتتابع الحركات والسكنات، توصل الى تحديد أنواع المقاطع الوزنية التي يمكن أن ترد في البيت الشعري، فقسمها الى ستة أقسام، تندرج ضمن ثلاثة أنواع، كالتالي:

أولاً. السبب: وهو مقطع مكون من حرفين، ويكون على قسمين:

  1. السبب الخفيف: هو عبارة عن حرف متحرك، يليه ساكن، مثلاً أداة النهي "لا"، وفي الكتابة العروضية تكتب: (/0 ) (يرمز للحرف المتحرك ب/ والحرف الساكن ب0).
  2. السبب الثقيل: هو عبارة عن حرفين متحركين، مثلاً الضمير "هُوَ"، وتكتب عروضياً // .

ثانياً. الوتد: هو مقطع مكون من ثلاثة أحرف، ويكون على قسمين كالتالي:

  1. الوتد المجموع: عبارة عن حرفين متحركين، يليهما ساكن، مثلاً حرف الجر "على"، وتكتب عروضياً كالتالي (//0).
  2. الوتد المفروق: وهو عبارة عن حرفين متحركين؛ يتوسطهما ساكن، مثل كلمة "عاد"، وتكتب عروضياً كالتالي (/0/).

ثالثاً. الفاصلة: وهي قسمان:

  1. فاصلة صغرى: وهى عبارة عن ثلاثة أحرف متحركة، يليها ساكن، مثل كلمة "رجلٌ" وتكتب عروضياً: ///0 (التنوين في علم العروض يحسب متحرك وساكن أي /0).
  2. فاصلة كبرى: وهى عبارة عن أربعة أحرف متحركة، يليها ساكن، مثل كلمة "جَلَبَةٌ" وتكتب عروضياً كالتالي: ////0.

وبانضمام هذه المقاطع بعضها الى بعض، تتشكل صورٌ مختلفة من الأنغام، حصرها الخليل في ثمانية أجزاء (تفعيلات) منها اثنتان خماسيتان هي: فعولن، فاعلن، وستة سباعية هي: مفاعيلن، فاعلاتن، مستفعلن، مفاعلتن، متفاعلن، مفعولات.

وكيفما توالت الحروف المتحركة والساكنة في الشطر الواحد من البيت الشعرى (وهو الوحدة الموسيقية للشعر العربي)؛ يكون توالي الحركات والسكنات في الشطر الآخر المقابل له، فيتحدد إيقاع البيت، هكذا فإن الأبيات اللاحقة ستكون صورة طبق الأصل للبيت الأول "المطلع"، ليتحدد إيقاع القصيدة وفق الوزن الخاص بها، والذي يمثله أحد البحور الستة عشر، وعندما استقرأ الخليل أوزان الشعر العربي، حصرها في خمسة عشر بحراً، هي:

الطويل، المديد، البسيط، الوافر، الكامل، الهزج، الرجز، الرمل، السريع، المنسرح، الخفيف، المضارع، المقتضب، المجتث، المتقارب، وترك السادس عشر بدون اسم، مهمِلاً إياه، حتى جاء الأخفش الأوسط (سعيد بن مسعدة البلخي وهو أحد تلاميذ الخليل) فسماه المتدارك، لأنه تدارك به ما فات الخليل.

الدوائر العروضية في نظرية الخليل

وضع الخليل خمس دوائر عروضية، بنى من خلالها بحور الشعر، التي هي على التوالي:

  • دائرة المختلف، سميت هكذا لاختلاف التفعيلات فيها بين سباعية وخماسية، والبحور المستعملة التي احتوتها هذه الدائرة هي: الطويل، المديد، البسيط.
  • دائرة المؤتلف، سميت هكذا لأن كل تفعيلاتها سباعية وتحتوي على بحرين مستعملين، هما الكامل والوافر.
  • دائرة المجتلب، سميت هكذا لأنه اجتلب تفعيلاتها من الدائرة الأولى، والبحور المستعملة التي تحتويها هي، الهزج، الرمل، الرجز.
  • دائرة المشتبه، سميت هكذا لتشابه تفعيلاتها وجميعها سباعية، والبحور المستعملة التي تحتويها هي: المنسرح، الخفيف، المضارع، المجتث، المقتضب، السريع.
  • دائرة المتفق، سميت هكذا، لأن تفعيلاتها متفقة، لاحتوائها تفعيلات خماسية تتكرر، وبحورها المتقارب والمتدارك.

وتقوم فكرة الدوائر العروضية على أساس أن كل دائرة من هذه الدوائر تعتمد على وزن من الأوزان التي يكثر الشعر فيها، إذ تكون أساساً للدائرة، ومن خلال استعمال طريقة الفك –أي فك التفعيلات إلى أجزائها من الأسباب والأوتاد– يتم الانتقال من هذا الوزن الذي هو أصل الدائرة إلى أوزان أخرى بطريقة دائرية وعكس حركة عقارب الساعة. أما طريقة استخراج الأوزان أو البحور، فهي أن يؤخذ أصل الدائرة، فيترك ما في أوله من وتد أو سبب، فيستقيم منه بحر ثانٍ، ثم يترك ما في أول هذا البحر من وتد أو سبب، ليستقيم بحر ثالث، ذلك باختصار هو الأساس الذى قامت عليه نظرية الخليل في العروض العربي.

أوزان بحور الشعر للفراهيدي

حدد الخليل أوزان البحور التي وضعها، كالتالي:

  1. البحر الطويل، وزنه: فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن.
  2. البحر المديد، وزنه: فاعلاتن فاعلن فاعلاتن.
  3. البحر البسيط، وزنه: مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن، وأكثر استخدامات البسيط أن يكون مخبوناً (الخبن في علم العروض هو حذف ثاني السبب الأول، وهنا فاعلن، يحذف ثاني سببها فتصبح فعلن).
  4. البحر الوافر، وزنه: مفاعلتن مفاعلتن فعولن.
  5. البحر الكامل، وزنه: متفاعلن متفاعلن متفاعلن.
  6. البحر الهزج، وزنه: مفاعيلن مفاعيلن.
  7. البحر الرجز، وزنه: مستفعلن مستفعلن مستفعلن.
  8. البحر الرمل، وزنه: فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن.
  9. البحر السريع، وزنه: مستفعلن مستفعلن فاعلن.
  10. البحر المنسرح، وزنه: مستفعلن مفعولات مفتعلن.
  11. البحر الخفيف، وزنه: فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن.
  12. البحر المضارع، وزنه: مفاعيلن فاعلاتن.
  13. البحر المقتضب، وزنه: مفعولات مفتعلن.
  14. البحر المجتث، وزنه: مستفعلن فاعلاتن (حيث لا يستخدم إلا مجزوءاً).
  15. ابحر المتقارب، وزنه: فعولن فعولن فعولن فعولن.

ثم زاد عليه الأخفش بحراً آخر، هو:

المتدارك، وزنه: فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن.

هذا البحر سماه العرب "ركض الخيل" و "صوت الناقوس".

من أجمل ما قاله الخليل الفراهيدي

رغم تأسيس الخليل لعلم العروض وامتلاكه ناصية اللغة، إلا أنه أقل من كتابة الشعر؛ لأنه انشغل عنه بالعلم، فكان مقلّاً في الكتابة الشعرية، و من أجمل ما قاله الخليل:

الناس واحدٌ من ثلاثةٍ

كان الفراهيدي يتعامل مع كل إنسان بحسب ما يستحق، وفي ذلك قال:

وَما الناسُ إِلّا واحِدٌ مِن ثَلاثَةٍ ... شَريفٌ وَمَشروفٌ وَمَثَلٌ مُقاوِمُ

فَأَمّا الَّذي فَوقي فَأَعرِفُ فَضلَهُ ... وَأُتبِعُ فيهِ الحَقَّ وَالحَقُّ لازِمُ

وَأَمّا الَّذي مِثلي فَإِن زَلَّ أَو هَفا ... تَفَضَّلتُ إِنَّ الفَضلَ بِالعِزِّ حاكِمُ

وَأَمّا الَّذي دوني فَإِن قالَ صُنتُ عَن ... إِجابَتَهِ عَرضي وَإِن لامَ لائِمُ

عذله أخوه فعذره

عندما لمعت فكرة بحور الشعر في رأس الفراهيدي، انفرد وبدأ يضرب الأواني ليخرج بلحنٍ يناسب ما يريد، سمعه أخوه فأتى إليه عاذلاً وقال له: ما تفعله ضربٌ من الجنون، فرد الخليل قائلاً:

لَو كُنتَ تَعلَمُ ما أَقولُ عَذَرتَني ... أَو كُنتَ تَعلَمُ ما تَقولُ عَذَلتُكا

لِكِن جَهِلتَ مَقالَتي فَعَذَلتَني ... وَعَلِمتُ أَنَّكَ جاهِلٌ فَعَذَرتُكا

من قوله في الرزق

إِذا ضاقَ بابُ الرِّزقِ عَنكَ بِبَلدَةٍ ... فثَمَّ بِلادٌ رِزقُها غَيرُ ضَيِّقِ

وَإيَّاكَ وَالسُّكنى بِدَارِ مَذَلَّةٍ ... فَتَشقَى بِكَأسِ الذِّلَّةِ المُتَدفِّقِ

فَمَا ضاقَتِ الدُنيا عَلَيكَ بِرَحبِها ... وَلا بابُ رِزقِ اللَّه عَنكَ بِمُغلَقِ

قتلته أفكاره العميقة

لم يمر على الفراهيدي وقتٌ دون أن يفكر فيه أو يقلّب تفاصيل اللغة، وعندما كان يسير في مكان فما كان يشغله عن نفسه سوى علمه، فإما يكمل التقطيع العروضي لبيتٍ شعري أو يفكر بمسألة طرأت فجأةً، وكما هو الحال بالنسبة للكثير من الأفكار التي تقتل أصحابها في كثير من الأحيان، كذلك حصل مع الفراهيدي، لكن بطريقةٍ مختلفة، إذ كان يسير في أحد شوارع البصرة، ويفكر بنظامٍ حسابي يحميه من التعرض للغش من قبل أحد بائعي الخضار، وأثناء غرقه بالتفكير وشروده الذهني ارتطم بعمود أحد الجوامع في البصرة، وكان الارتطام قوياً؛ وعلى إثر ذلك وافته المنية في عام 786م.

أخيراً... قد لا تكون أبيات الخليل الفراهيدي بكثرة الأسباب والأوتاد التي قسّمها، ولا بكثرة المحاولات التي أجراها حتى يضع تفاصيل علمٍ من أدق العلوم في اللغة العربية، لكنه فتح الطريق أمام الشعراء حتى يبلغوا عذب القصائد، وصارت تعاليم الفراهيدي قواعداً مقدسةً تستند إليها القصائد، وفي حال خروج الشاعر عن بحور الخليل أو تعاليمه العروضية يقال: "فلانٌ كسر الوزن والموسيقى الشعرية وتجاوز العروض".

القيادي الآن على واتس آب! تابعونا لكل أخبار الأعمال والرياضة