الجنرال شارل ديغول

  • بواسطة: بابونج تاريخ النشر: الأحد، 24 نوفمبر 2019 آخر تحديث: الإثنين، 06 ديسمبر 2021
الجنرال شارل ديغول

يعد شارل ديغول شخص متعدد المواهب، فإضافة لعمله في الجيش الفرنسي، وتقلده منصب الرئيس في بلده، كان شارل ديغول كاتباً حيث ألف العديد من الكتب، قال عنه الرئيس الفرنسي جورج بومبيدو عند وفاته: "الجنرال ديغول مات، فرنسا أرملة"، "Le général de Gaulle est mort; la France est veuve"، جنرال عسكري ورئيس جمهورية فرنسا الأسبق، عاصر الحربين العالميتين الأولى والثانية، اشتهر برئيس حكومة فرنسا الحرة، جعل انتخاب الرئيس من الشعب مباشرة عوضاً عن الجمعية الوطنية كما كان سائداً في السابق.. إنه شارل ديغول. فأين ولد شارل ديغول؟ كيف نشأ؟ من هي عائلته؟ هل لديه أولاد؟ ماذا قدم لفرنسا؟ كل هذه الأسئلة سنحاول الإجابة عليها في هذه المقالة.

طفولة شارل ديغول دراسته وحياته العاطفية

ولد شارل ديغول في مدينة ليل الفرنسية في الثاني والعشرين من شهر تشرين الثاني/نوفمبر عام 1890، والده هنري ديغول (Henri de Gaulle) كان أستاذاً في التاريخ والأدب بالكلية اليسوعية بفرنسا، والدته جون مايلوت (Jeanne Maillot)، وهو الثالث بين إخوته، لديه ثلاثة أشقاء، هم:

  • كزافييه (Xavier)، من مواليد عام 1887، كان مهندساً وضابطاً في الجيش الفرنسي، أسرته ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية، توفي في عام 1955.
  • جاك (Jacques)، من مواليد عام 1893، ضابط فرنسي أصيب بشلل دماغي في عام 1926، وهو أب لأربعة أولاد، هم فرانسوا وبرنارد من مواليد السابع والعشرين من شهر آب/أغسطس عام 1923، جون وبيتر من مواليد الثالث عشر من شهر آب/ أغسطس عام 1926، توفي في عام 1946.
  • بيير (Pierre)، من مواليد عام 1897، ضابط وسياسي فرنسي، توفي في عام 1959.

وشقيقة واحدة اسمها ماري أغنيس (Marie-Agnès)، من مواليد عام 1889، عقيد فخري في الجيش الفرنسي، توفيت في عام 1983.

شارل ديغول الطالب والمثقف

درس شارل ديغول في مدرسة كوليج ستانيسلاس بباريس، كما درس لفترة قصيرة في بلجيكا. قرأ شارل ديغول للعديد من الفلاسفة الألمان أمثال (نيتشه، كانط)، والإغريقيين مثل (أفلاطون)، إضافةً إلى ذلك قرأ ديغول عن تاريخ العصور الوسطى في أوروبا.

الحياة العاطفية لشارل ديغول

تزوج شارل ديغول من إيفون فوندروكس (Vendroux Yvonne) في السابع من شهر نيسان/أبريل عام 1921، قامت زوجته بحملات ضد الدعارة، وبيع المواد الإباحية في أكشاك بيع الصحف، وقدمت عرضاً متلفزاً عن العري والجنس، حصلت بموجبه على لقب "TANTE (العمة) ايفون"، وفي وقت لاحق حاولت دون جدوى إقناع ديغول حظر التنانير القصيرة في فرنسا، وأنجب ديغول من زوجته ثلاثة أولاد:

  • فيليب (Philippe)، ولد في باريس في الثامن والعشرين من شهر أيلول/سبتمبر عام 1921، أصبح عضواً في مجلس الشيوخ الفرنسي.
  • اليزابيث (Élisabeth)، ولدت في باريس في الخامس عشر من أيار/مايو عام 1924، تزوجت من آلان دي بواسيو Boissieu Alan du، وتوفيت في الثاني من شهر نيسان/أبريل عام 2013.
  • آن (Anne)، ولدت في شهر كانون الثاني/يناير من عام 1928، ماتت بالالتهاب الرئوي في سن ال 20، أي في السادس من شهر شباط/فبراير عام 1948.

شارل ديغول في الجيش

كان شارل ديغول توّاقاً للثأر لهزيمة فرنسا أمام ألمانيا في الحرب الفرنسية الألمانية عام 1870 والتي أسفرت عن خسارة فرنسا للألزاس واللورين، وإعلان الوحدة الألمانية، فدخل الأكاديمية العسكرية في باريس عام 1908 كطالب ضابط، وتخرج منها في عام 1912 ضابطاً في الجيش الفرنسي.

انضم شارل ديغول بعد تخرجه من الأكاديمية العسكرية إلى فوج المشاة الثالث والثلاثين في الجيش الفرنسي، تحت قيادة المارشال بيتان (الذي سيصبح لاحقاً رئيس حكومة فيشي التابعة لألمانيا أثناء الاحتلال الألماني لفرنسا).

شارل ديغول في الحرب العالمية الأولى

شارك ديغول في الحرب العالمية الأولى ضمن فوج المشاة الثالث والثلاثين التابع للجيش الفرنسي، حيث وضع هذا الفوج في المقدمة لمواجهة الهجوم الألماني على فرنسا في شهر آب/أغسطس عام 1914، ورقي إلى فصيلة قائد، لكنه أُصيب برصاصة في الساق في معركة دينانت، التي تقدم على إثرها الألمان واحتلوا أجزاءً من فرنسا، حيث توقف التقدم الألماني السريع في شهر أيلول/سبتمبر، وبعد شفائه من إصابته، عاد ديغول إلى الجيش الفرنسي يقاتل ضد الألمان فأصيب بطلق ناري في يده اليسرى في العاشر من شهر كانون الثاني/يناير عام 1915.

وفي معركة فردان في شهر آذار/مارس من عام 1916 أُصيب ديغول بطلق ناري في فخذه، فاعتقله الألمان لمدة اثنين وثلاثين شهراً، وأفرج عنه بعد ثلاثة أسابيع من انتهاء الحرب العالمية الأولى في الأول من شهر كانون الأول/ديسمبر عام 1918.

ديغول في فترة ما بين الحربين

عاد ديغول للخدمة في الجيش الفرنسي بعد الحرب، حيث كانت له مجموعة من المهام:

  • أوفدته قيادة الجيش كمدرس للمشاة البولنديين ضمن البعثة العسكرية الفرنسية أثناء الحرب الروسية البولندية بين عامي 1919- 1921، ومُنح وساماً عسكرياً من بولندا.
  • شارك في القوة الفرنسية المتواجدة في منطقة الراين في عام 1920.
  • قائد لكتيبة المشاة الخفيفة في تريفيس بفرنسا.
  • رقي إلى رتبة مقدم في عام 1930، وشغل منصب ضابط ركن في فرنسا.

دعا ديغول في كتابه (نحو جيش محترف) (Vers l"armée de métier)، عام 1934 إلى "بناء جيش محترف على أساس الفرق المدرعة المحمولة، ويكون أداة فعالة في تطبيق القانون الدولي، لا سيما معاهدة فرساي، التي منعت ألمانيا من إعادة التسلح"، كما أكد على ضرورة استخدام الدبابات، لكن القيادة الفرنسية لم تنفذ مضمون هذا الكتاب، لكن ألمانيا نفذت مضمونه في هجومها على فرنسا في الحرب العالمية الثانية.

ديغول في الحرب العالمية الثانية

عند اندلاع الحرب العالمية الثانية، سعى العقيد ديغول لتنفيذ نظرياته وتكتيكاته لحرب مدرعة ضد العدو الألماني الذي اخترق الجبهة الفرنسية في سيدان في الخامس عشر من شهر أيار/مايو عام 1940، حيث هاجم ديغول في السابع عشر من شهر أيار/مايو عام 1940 القوات الألمانية بالدبابات، وأجبرها على التراجع على الرغم من غياب الغطاء الجوي، فرقي إلى رتبة لواء في الرابع والعشرين من شهر أيار/مايو عام 1940.

في حين عانى الجيش الفرنسي في باقي الجبهات من هزائم كبيرة أمام الجيش الألماني، وفي الثامن والعشرين من شهر أيار/مايو عام 1940 شارك في محاولة فاشلة لإنقاذ قوة الحلفاء المحاصرين في دونكيرك، وفي الخامس من حزيران/يونيو عام 1940 عين رئيس الوزراء بول رينو اللواء شارل ديغول وكيلاً لوزارة الدولة لشؤون الدفاع الوطني والحرب، ومسؤولاً عن التنسيق مع القوات البريطانية، حيث رفض الاستسلام لألمانيا، وطلب من الحكومة الذهاب إلى الجزائر (كانوا يعتبرونها جزءاً من فرنسا).

لكن الحكومة الفرنسية استقالت فتشكلت حكومة جديدة بزعامة الجنرال بيتان، طلبت الهدنة مع ألمانيا النازية في السادس عشر من شهر حزيران/يونيو عام 1940، وفي اليوم التالي أي في السابع عشر من شهر حزيران/يونيو عام 1940، تمرد ديغول على الحكومة الفرنسية الجديدة وسافر مع مجموعة من الضباط الفرنسيين إلى بريطانيا، حيث شكل حكومة في المنفى أسماها (حكومة فرنسا الحرة).

خطابة في إذاعة البي بي سي

وفي الثامن عشر من شهر حزيران/يونيو عام 1940 ألقى ديغول خطابه الإذاعي عبر خدمة راديو بي بي سي، بعد موافقة رئيس الحكومة البريطانية ونستون تشرشل، حض فيه الشعب الفرنسي على الاستمرار في المقاومة والعمل ضد حكومة بيتان التي كانت على وشك توقيع الهدنة مع ألمانيا.

وفي الحادي والعشرين من شهر حزيران/يونيو عام 1940 وقعت الحكومة الفرنسية بزعامة بيتان الهدنة مع ألمانيا النازية وانتقلت الحكومة الفرنسية إلى مدينة فيشي، حيث أصبحت تعرف هذه الحكومة باسم (حكومة فيشي)، ونتيجة وصول خطابات ديغول إلى الشعب الفرنسي أقامت حكومة فيشي محاكمة عسكرية غيابية لديغول حكمت عليه من خلالها بالإعدام بتهمة الخيانة في الثاني من شهر آب/أغسطس عام 1940.

ديغول رئيساً لحكومة فرنسا الحرة

شكل ديغول حكومة فرنسا الحرة بزعامته في لندن في شهر أيلول/سبتمبر عام 1941، وقاد المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال الألماني النازي، وبعد غزو ألمانيا النازية للاتحاد السوفيتي في حزيران/يونيو عام 1941، أقام ديغول صداقة قوية مع رئيس الاتحاد السوفيتي جوزيف ستالين، وفي عام 1942، أنشأ ديغول سرب طيران أسماه (نورماندي-نيمان) للقتال على الجبهة الشرقية إلى جانب دول الحلفاء (بريطانيا، الولايات المتحدة الأمريكية، الاتحاد السوفيتي).

ديغول والحلفاء

على الرغم من وجود ديغول في بريطانيا إلا أنه لم يكن تابعاً للحكومة البريطانية، بل على العكس كان يحاول أن يكون مستقلاً باعتباره يمثل فرنسا، حيث حاول تشرشل شرح أسباب سلوك ديغول في المجلد الثاني من تاريخ الحرب العالمية الثانية قائلاً: "يرى ديغول أنه لا بد من أجل مكانته لدى الشعب الفرنسي الحفاظ على سلوك متغطرس ويمتاز بالفخر تجاهه، فعلى الرغم من أنه في المنفى، يعتمد على حمايتنا (بريطانيا) ويسكن في وسطنا، كان عليه أن يكون وقحاً في تعامله مع البريطانيين ليثبت للعيون الفرنسية أنه ليس دمية لبريطانيا".

أما بالنسبة للرئيس الأمريكي روزفلت فقد رفض الاعتراف بديغول ممثلا عن فرنسا، حيث حاول روزفلت استمالة حكومة فيشي للابتعاد عن ألمانيا النازية، وعندما فشل وقف إلى جانب الجنرال جيرو منافس ديغول، وبعد أن تغلب ديغول على منافسه اعترف به روزفلت ممثلاً عن فرنسا في أواخر عام 1944.

ديغول من لندن إلى الجزائر

بعد فتح الجبهة الثانية في إفريقيا ضد ألمانيا نزلت قوات الحلفاء في الجزائر، فانتقل ديغول إلى الجزائر بعد استعادتها من حكومة فيشي الموالية للألمان، في شهر أيار/مايو عام 1943.

الاستعدادات ليوم النصر

مع قرب تحرير فرنسا من الاحتلال الألماني النازي اتفق الرئيس الأمريكي روزفلت ورئيس الوزراء البريطاني تشرشل على إنشاء حكومة عسكرية في فرنسا ريثما تجري انتخابات يقرر على إثرها الفرنسيون من يحكمهم، وعلى الرغم من رفض ديغول لهذه الفكرة لكنه رضخ لها أخيراً؛ لأن تشرشل أقنعه خلال زيارة لديغول إلى لندن أن هذا هو الحل الوحيد لتحرير فرنسا.

دخول ديغول العاصمة وإعلانه تحريرها

قاد ديغول القوات الفرنسية من شمال إفريقيا لاستعادة فرنسا من المحتل الألماني في عملية دراغون في الرابع عشر من شهر حزيران/يونيو عام 1944، حيث تمكن من السيطرة على ثلث مساحة البلاد، وعندما وصل إلى مدينة بايو أعلنها عاصمة لحكومة فرنسا الحرة، ثم دخل بقواته إلى العاصمة الفرنسية باريس بالتزامن مع دخول الحلفاء إليها حيث أعلن تحرير باريس (يوم النصر في فرنسا) في الخامس والعشرين من شهر آب/أغسطس عام 1944.

وفي اليوم التالي تعرض الجنرال ديغول لمحاولة اغتيال من خلال إطلاق النار عليه من قبل ميليشيا تابعة لحكومة فيشي التي غادرت فرنسا في العشرين من الشهر نفسه، لكن المحاولة فشلت، وألقى الجنرال ديغول خطاباً أكد فيه استمرار المعركة ضد الألمان حتى استسلامهم.

ومن أبرز جمل الخطاب: "باريس! باريس المحررة! حررت في حدد ذاتها، حررها أهلها بمساعدة جيوش فرنسا، بدعم ومساعدة من كل فرنسا! ... العدو يترنح لكنه لم يتعرض للضرب حتى الآن. إنه لا يزال على أرضنا.. لن يكفينا أننا بمساعدة حلفائنا؛ طردناه من وطننا من أجل أن نكون راضين بما حدث.. نحن نريد دخول أرضه، كغزاة.. وهذا هو الانتقام، وهذه هي العدالة، وسنستمر في القتال حتى آخر يوم، حتى يوم النصر التام والكامل".

الحكومة المؤقتة للجمهورية الفرنسية

تشكلت حكومة فرنسية مؤقتة بزعامة جورج بيدو في العاشر من شهر أيلول/سبتمبر عام 1944، حيث ضمت كل الفرقاء الفرنسيون من الأحزاب إضافة لأعضاء من حكومة فرنسا الحرة.

شارك ديغول في مؤتمر يالطا في شباط/فبراير عام 1945، بعد احتلال الجيش الفرنسي لأجزاء من ألمانيا بالتوازي مع تقدم الحلفاء فيها، وبالتالي أدرجت فرنسا من بين الدول الخمسة التي دعت الآخرين إلى المؤتمر لتأسيس الأمم المتحدة، وهذا أمر هام لأنه يضمن فرنسا على مقعد دائم في مجلس الأمن الدولي، ويكفل لها المكانة المرموقة التي على الرغم من الضغوط من الدول الناشئة لا تزال فرنسا تحتل هذه المكانة اليوم.

توفي الرئيس الأمريكي روزفلت في الثاني من نيسان/أبريل عام 1945، فتولى الرئاسة الأمريكية هاري ترومان، وكانت علاقته بديغول متوترة، بسبب سعي ترومان لاحتلال المناطق الفرنسية المحررة من الألمان، فهدد ديغول بالاستعانة بستالين، فتراجع ترومان عن مسعاه.

النصر في أوروبا

استسلمت الجيوش الألمانية للجيوش الأمريكية والبريطانية في ريميس في شهر أيار/مايو عام 1945، كما وقعت الجيوش الألمانية هدنة منفصلة مع فرنسا في برلين.

فرنسا والمستعمرات في عهد ديغول

طالبت فرنسا الحكومتين السورية واللبنانية بمزايا اقتصادية وثقافية وعسكرية مقابل انسحابها من سوريا ولبنان، لكن الحكومتين السورية واللبنانية رفضتا المطالب الفرنسية، وعمت المظاهرات في سوريا تطالب بالاستقلال ففتحت القوات الفرنسية عليها النار في العشرين من شهر أيار/مايو عام 1945، وفي التاسع والعشرين من أيار/مايو قصفت فرنسا البرلمان السوري؛ مما أدى لاستشهاد عدد كبير من السوريين، فغضبت بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية من التصرف الفرنسي، ورفعت سوريا قضية جلاء فرنسا عن أراضيها إلى مجلس الأمن الذي طالب بانسحاب فرنسا من سوريا ولبنان، حيث أعلنت سوريا السابع عشر من شهر نيسان/أبريل عام 1946 يوم الجلاء؛ لجلاء آخر جندي فرنسي عن أراضيها، فيما جلا آخر جندي فرنسي عن لبنان في الحادي والثلاثين من شهر كانون الأول/ديسمبر عام 1946.

مؤتمر بوتسدام

قبيل مؤتمر بوتسدام خسر تشرشل الانتخابات البرلمانية في بريطانيا، وأصبح كليمنت أتلي رئيساً لوزراء بريطانيا، وتقرر في مؤتمر بوتسدام تقسيم فيتنام -التي كانت مستعمرة فرنسية لأكثر من مائة سنة- إلى مناطق بريطانية وصينية من النفوذ، وبعد وقت قصير من استسلام اليابان في آب/أغسطس عام 1945، أرسل ديغول فيلق مشاة الشرق الأقصى الفرنسية لإعادة السيادة الفرنسية في الهند الصينية الفرنسية، فأعلن قادة المقاومة في الهند الصينية حرب استقلال فيتنام، التي انتهت بانسحاب فرنسا من فيتنام في خمسينيات القرن الماضي.

 

نزاع ديغول مع البرلمان وإستقالته

أجريت انتخابات في فرنسا لجمعية تأسيسية في شهر تشرين الأول/أكتوبر عام 1945 مهمتها إنشاء دستور جديد لفرنسا (دستور الجمهورية الرابعة، حيث كان إعلان الجمهورية الأولى بموجب دستور 1792 بعد الثورة الفرنسية، الجمهورية الثانية بموجب دستور جديد في عام 1848، الجمهورية الثالثة في عام 1870)، منذ التحرير.

وبعد وضع الدستور عرض على الاستفتاء حيث أيد الفرنسيون هذا الدستور الذي أعطى الرئيس صلاحيات كبيرة، وفي الثالث عشر من شهر تشرين الثاني/نوفمبر عام 1945 انتخب البرلمان بالإجماع شارل ديغول رئيساً للجمهورية الفرنسية.

ومع تولي ديغول الرئاسة في فرنسا بدأ نزاعه مع البرلمان بسبب اختيار رئيس الوزراء، حيث لم يكن يرغب في اختيار رئيس من الحزب الشيوعي الفرنسي الذي حصل على أكبر عدد من المقاعد في البرلمان، فأرسل ديغول خطاب استقالة إلى رئيس البرلمان، وأعلن أنه "غير مستعد للثقة بالحزب الذي يعتبر نفسه تابع لقوة أجنبية (الاتحاد السوفيتي) ليكون في السلطة"، فحسم الجدل بإعطاء الشيوعيين خمس حقائب في الحكومة الفرنسية وعدم تعيين رئيس الحكومة من هذا الحزب.

وبذلك تشكلت الحكومة الفرنسية في الحادي والعشرين من شهر تشرين الثاني/نوفمبر عام 1945، لكنه عاد واستقال بعد شهرين أي في العشرين من كانون الثاني/يناير عام 1946، مراهناً على أن الشعب الفرنسي سيعيده للسلطة باعتباره بطل حرب، فخلفه في السلطة فيكيكس جوين ثم جورج بيدو فليون بلوم.

خلال الجمهورية الرابعة التي سادت بين عامي 1946- 1958 كان هناك أربع وعشرون وزارة منفصلة وغير منسجمة مع بعضها، حيث قال فيها ديغول: "كيف يمكنك أن تحكم بلدا لديها 246 نوعا من الجبن؟".

 

عودة ديغول إلى السلطة

نتيجة عدم الاستقرار السياسي في البلاد وهزيمة فرنسا في فيتنام، وتصاعد الثورة الجزائرية الكبرى وعجز فرنسا عن وقفها؛ انهارت الجمهورية الرابعة، حيث أقدم المتظاهرون في الثالث عشر من شهر أيار/مايو عام 1958 على الاستيلاء على المباني الحكومية، فاتفق السياسيون على عودة الجنرال شارل ديغول إلى السلطة.

لكن ديغول وضع شروطاً لعودته منها: تغيير الدستور، منحه سلطة فرض حالة الطوارئ لمدة ستة أشهر، يقترح خلالها مشروع دستور جديد للبلاد (دستور الجمهورية الخامسة)، وافق السياسيون على شروطه فأصبح شارل ديغول رئيس وزراء فرنسا في عام 1958.

وفي الثامن والعشرين من شهر أيلول/سبتمبر عام 1958 وافق 79.2% من الفرنسيين على الدستور الجديد، فيما أعطيت المستعمرات الفرنسية (غينيا والجزائر ..) حق الاختيار بين الاستقلال الفوري أو القبول بالدستور الجديد، فقبلت المستعمرات الدستور الجديد ما عدا غينيا التي حصلت على الاستقلال في نفس العام، في وقت استمرت فيه الثورة الجزائرية الكبرى نتيجة اتهام الجزائريين لفرنسا بتزوير نتيجة الاستفتاء.

 

استلم ديغول مهامه الرئاسية في كانون الثاني/ يناير عام 1959

أجريت انتخابات في شهر تشرين الثاني/نوفمبر عام 1958 لهيئة انتخابية، فانتُخب شارل ديغول رئيساً لفرنسا في كانون الأول/ديسمبر بموافقة 78%، حيث استلم مهامه الرئاسية مطلع كانون الثاني/يناير عام 1959، ثم سعى ديغول في عهده لتغيير وجه فرنسا داخلياً وخارجياً:

1- في الداخل

اتخذ ديغول مجموعة من الإجراءات على الصعيد الداخلي، منها:

  • اتخاذ تدابير اقتصادية مهمة لإنعاش الاقتصاد، حيث أصدر فرنكاً فرنسياً جديداً (بقيمة 100 فرنك القديمة)، كما خفض الاحتياطات الفرنسية من الدولار الأمريكي، واعتمد سياسة المبادلة مع واشنطن بالذهب؛ وذلك لتقليل النفوذ الأمريكي في السوق الفرنسية، إضافةً للتركيز على صناعة الأسلحة والطائرات والسيارات الأمر الذي ساهم في نمو الاقتصاد الفرنسي، كما أصدر ديغول في عام 1967 قانوناً ألزم بموجبه الشركات على توزيع جزء صغير من أرباحها لموظفيها.
  • انتخاب رئيس الجمهورية مباشرة من الشعب، أصدر الرئيس شارل ديغول قراراً بإجراء استفتاء يسمح للشعب الفرنسي باختيار رئيسه بدلاً من الجمعية الوطنية، فوافق الفرنسيون في الاستفتاء الذي جرى في الثامن والعشرين من شهر تشرين الثاني/نوفمبر عام 1962 على انتخاب الرئيس مباشرة من الشعب بنسبة 75%.

2- سياسته الخارجية

سعى ديغول لاتباع سياسة مستقلة نوعاً ما عن الولايات المتحدة الأمريكية، فاتخذ الخطوات التالية:

  • السعي لامتلاك بلاده أسلحة نووية أسوةً بالاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما حصل في الثالث عشر من شهر شباط/فبراير عام 1960.
  • دعا لتشكيل كونفدرالية تضم كل الدول الأوروبية، بعد تشكيل الجماعة الاقتصادية الأوروبية في عام 1957، سعى ديغول لتشكيل كونفدرالية أوروبية، حيث قال في خطاب له في ستراسبورغ في الثالث والعشرين من شهر تشرين الثاني/نوفمبر عام 1959: "أوروبا من المحيط الأطلسي إلى جبال الأورال ستقرر مصير العالم"، لكنه رفض دخول بريطانيا إلى السوق الأوروبية المشتركة على اعتبار أنها مرتبطة بالولايات المتحدة الأمريكية حيث تذكر ديغول كلام تشرشل له في عام 1943 "أنه إذا اضطرت بريطانيا للاختيار بين فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية فإن بريطانيا ستختار الولايات المتحدة الأمريكية"، ولم تستطع بريطانيا الانضمام للسوق الأوروبية المشتركة حتى عام 1972 أي بعد ثلاثة أعوام من استقالة ديغول من رئاسة فرنسا.
  • تسوية القضية الجزائرية، حيث اعترف باستقلال الجزائر في الثالث من شهر تموز/يوليو عام 1962.
  • حلف الناتو، تأسس في الرابع من نيسان/أبريل عام 1949، وعندما أصبح ديغول رئيساً في عام 1959 طالب بأن تعامل فرنسا على قدم المساواة مع بريطانيا وأمريكا، كما طالب أن تمتد المساحة الجغرافية للحلف لتشمل الأراضي الفرنسية في الخارج، بما في ذلك الجزائر، وعندما رفضت بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية ذلك انسحب ديغول من القيادة العسكرية لحلف الناتو في عام 1966، مطالباً بإزالة جميع الأسلحة النووية الأمريكية من الأراضي الفرنسية.
  • تحسين العلاقات مع الاتحاد السوفيتي والصين، زار ديغول موسكو وبكين في عام 1964، حيث كانت هذه الزيارة فاتحةً لتحسين العلاقات مع هاتين الدولتين.
  • تراجع العلاقات مع إسرائيل، أصدر ديغول قراراً بفرض حظر على توريد السلاح إلى إسرائيل قبيل ثلاثة أيام من نكسة حزيران/يونيو عام 1967، وذلك لممارساتها بحق الفلسطينيين ودول الجوار، كما طالب ديغول بانسحاب إسرائيل من الأراضي العربية التي احتلتها في حرب 1967، فازدادت شعبية فرنسا في العالم العربي.
  • تراجع العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية، حيث طالب ديغول في شهر أيلول/سبتمبر بانسحاب القوات الأمريكية من فيتنام.

مظاهرات في فرنسا وديغول يستقيل من الرئاسة

نظم الفرنسيون مظاهرات ضد الحكومة الفرنسية في شهر أيار/مايو عام 1968 بسبب غياب تمثيل المرأة في الحكومة، والابتعاد عن الشباب الشريحة الأكبر في البلاد، فعرض ديغول إصلاحات سياسية من بينها، إعطاء صلاحيات لولاة المناطق، إدخال ممثلي المنظمات النقابية والمهنية في المجالس الإقليمية في استفتاء على الجمهور.

لكن الفرنسيين رفضوا الإصلاحات، وقال ديغول في خطاب متلفز: "إذا لم تؤيد الغالبية العظمى من الناخبين الإصلاحات سأستقيل"، فاستقال في الثامن والعشرين من شهر نيسان/أبريل عام 1969، ورفض راتب التقاعد كرئيس ورضي براتب تقاعدي بصفته عقيداً متقاعداً.

 

تعرض ديغول لثلاث محاولات اغتيال فاشلة

  • الأولى في الثامن من شهر أيلول/سبتمبر عام 1961، حيث وضعت له قنبلة على طريق كولومبي في بونت-سور-سين، لكنها لم تنفجر.
  • الثانية في الثالث والعشرين من شهر أيار/مايو عام 1962، حيث أطلق مسلح النار على ديغول بالقرب من قصر الاليزيه.
  • الثالثة في الخامس عشر من شهر آب/أغسطس عام 1964، ألقيت عليه قنبلة وهو يزور قرية مونت فارون قرب تولون، لكن القنبلة لم تنفجر.
 

رحيل شارل ديغول، وفرنسا أرملة

توفي الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديغول فجأة في التاسع من تشرين الثاني/نوفمبر عام 1970، حيث لم يكن يعاني من أي مرض وكان يتمتع بصحة جيدة، وعند وفاته شعر بألم في عنقه، ومن ثم فارق الحياة، حيث أحضرت زوجته الطبيب الذي أكد وفاته، فنعاه الرئيس الفرنسي جورج بومبيدو بالقول: "الجنرال ديغول مات، وفرنسا هي أرملة"، "Le général de Gaulle est mort; la France est veuve".

إرث ديغول

بقي شارل ديغول حياً في قلوب الفرنسيين، حيث اعتبر رمزاً من رموز فرنسا كالتالي:

  • منح المؤرخون نابليون وديغول مركز أعلى رتبة من القادة الفرنسيين في القرنين ال19 وال20.
  • نصبت تماثيل لديغول في العاصمة البولونية وارسو، الروسية موسكو، الرومانية بوخارست، ومدينة كيبيك الكندية.
  • أطلق اسم شارل ديغول على العديد من الطرق والجسور والم��اني الهامة في المدن الفرنسية، مثل ساحة شارل ديغول (عوضاً عن ساحة النجمة في باريس)، جسر شارل ديغول في باريس، دو الجنرال ديغول في ليل، مطار شارل ديغول (عوضاً عن مطار رواسي)، حاملة الطائرات النووية شارل ديغول.
  • انتخبه الجمهور كأعظم الفرنسيين في كل العصور، باستفتاء أجراه تلفزيون فرانس 2 في الرابع من شهر نيسان/أبريل عام 2005.

في الختام.. عاش ديغول حوالي ثمانين عاماً، لكنه لا يزال خالداً في قلوب الفرنسيين، باعتباره رمزاً من رموز البلاد، وبطل المقاومة ضد الاحتلال الألماني النازي، ومؤسس الجمهورية الخامسة.