النقشبندي: سيد المداحين وصاحب ابتهال مولاي

  • تاريخ النشر: الإثنين، 10 مايو 2021 آخر تحديث: الخميس، 23 مارس 2023
النقشبندي: سيد المداحين وصاحب ابتهال مولاي

"أقوم بالليل والأسحار ساهية ... أدعو وهمس دعائي بالدموع ندي

بنور وجهك إني عائذ وجل ... ومن يعذ بك لن يشقى إلى الأبد.."

واحدة من الابتهالات التي تجمع بين العبقرية والجمال، بصوت الكروان وسيد المداحين "سيد النقشبندي"، الذي استطاع بتفرد صوته وإحساسه الخاشع القريب من القلب والوجدان أن يحفر اسمه في الوجدان، ويحظى بمكانة متفردة، فقدم لنا كوكبة فريدة من الابتهالات؛ منها ابتهال «مولاي» الذي أصبح من أهم المعالم والطقوس الرمضانية.

دخل الإذاعة بالصدفة

لم يطرق "النقشبندي" أبواب الشهرة في القاهرة إلا بعدما تجاوز عمره الأربعين، وبداية دخوله الإذاعة كانت صدفة، أثناء إحيائه حفل مولد السيدة زينب، بحضور الإذاعي الشهير "مصطفى صادق" الذي جذبه صوت النقشبندي، فقدمه لمدير إذاعة البرنامج العام بالقاهرة "محمد محمود شعبان" الشهير بـ (بابا شارو)، واتفق معه على تقديم دعاء ديني يومي يذاع بعد أذان المغرب في شهر رمضان.. كان ذلك عام 1966، وأصبح صوته من معالم شهر رمضان، ومنذ ذلك الوقت، أصبح لصوته بصمة ومكانة خاصة في الإذاعة، فكان صوته يصاحب كل المستويات العمرية.

وُصف صوت "النقشبندي" بالنور الكريم الفريد، وكأنه نزل من السماء، كما وُصف بأنه يمتلك صوتاً نادراً؛ فهو سيد المداحين بلا منافس، فكان يمتلك حنجرة إيمانية، تملأ القلوب والآذان راحة وسكينة وخشوعاً.

وفي أحد لقاءاته مع السيدة أم كلثوم، قالت له مداعبة: "أرجوك يا شيخ سيد، لا تدخل مجال الطرب؛ حتى لا نجلس في بيوتنا جميعاً".

صوت فريد من نوعه

وقد وصف المحللون صوت النقشبندي بالعذوبة والقوة والاتساع؛ فهو مكون من ثماني طبقات، وذو قدرات خاصة امتاز بها وحده؛ فهو يستطيع أن يأتي بالقرار ويذهب به إلى جواب الجواب الجواب، ثم يذهب مرة أخرى إلى القرار ليسلمه إلى بطانته.

لم يكن الشيخ النقشبندي يحب الحفظ، فكان يؤلف له المذهب، وبعدها يبدأ في الارتجال، ويقوم العازفون باتباعه حاملاً في طياته معنى الكلمة، فكان متمتعاً ومتجولاً ببساطة في جميع المقامات، إلا أنه كان مائلاً إلى مقام "الرست" خاصة عندما يقول: "يا رب".

معنى اسم النقشبندي

اسم النقشبندي معناه النقش الإلهي على القلوب؛ فهو مكون من مقطعين: نقش وتعني بالعربية الرسم، وبند كلمة فارسية تعني القلب، فكان له من اسمه الكثير، وكأن صوته نقش بحب الله، ثم رسم بصوته الخاشع هذا الحب في قلوب مستمعيه.

نسبه

وينسب النقشبندي إلى فرقة من الصوفية يعرفون بالنقشبندية، ونسبتهم إلى شيخهم بهاء الدين نقشبند المتوفى سنة 791 هجرياً.

جده هو محمد بهاء الدين النقشبندي، الذي نزح من بخارى بولاية أذربيجان إلى مصر للالتحاق بالأزهر الشريف، ووالده أحد علماء الدين ومشايخ الطريقة النقشبندية الصوفية.

طفولته

ولد "النقشبندي" بقرية دميرة إحدى قرى محافظة الدقهلية، في مصر في 7 يناير عام 1920. وفي العاشرة من عمره انتقلت أسرته إلى مدينة طهطا في جنوب الصعيد.

حفظ القرآن الكريم على يد الشيخ أحمد خليل قبل أن يستكمل عامه الثامن، وتعلم الإنشاد الديني في حلقات الذكر بين مريدي الطريقة النقشبندية.

بداية شهرته

كان الشيخ النقشبندي قارئاً نهماً، خاصة للشعر الصوفي، فحفظ العديد من القصائد لعطاء الله السكندري، والإمام البرعي، وقصيدة البردة للإمام البوصيري، وأشعارا لابن الفارض وغيرهم.

في عام 1955، استقر في مدينة طنطا.. كان مقرئاً للقرآن في محافظة الغربية بدلتا مصر، وكان مشهوراً بالابتهالات الدينية، وذاع صيته في الغربية، ويقال إنه لما كان النقشبندي يهيم بصوته في مدح الرسول، كان المارة يتوقفون ويتزاحمون لسماع صوته العذب.

تسجيلاته الإذاعية

وفي نهاية الستينيات، وفي مسجد الإمام الحسين بالقاهرة، عندما كان يحيي الليلة الختامية للمولد النبوي الشريف، التقى مصادفة الإذاعي الشهير أحمد فراج الذي أعجب بصوته، ومن هنا بدأت شهرته بقدر أكبر، فسجل معه بعض التسجيلات لبرنامج (في رحاب الله)، ثم سجل العديد من الأدعية الدينية لبرنامج (دعاء) الذي كان يذاع يومياً عقب أذان المغرب، وقدمه لبرنامجه الشهير (نور على نور)، كما اشترك في حلقات البرنامج التليفزيوني (في نور الأسماء الحسنى)، وسجل برنامج (الباحث عن الحقيقة) الذي يحكي قصة الصحابي سلمان الفارسي.

إرثه

كما ترك للإذاعة ثروة من الأناشيد والابتهالات بصوته فقط دون موسيقى عام 1975. وفي عام 1983 اختار له الموسيقار عمار الشريعي مجموعة من تلك الابتهالات وصلت إلى 30 ابتهالاً كتبها له الشاعر محمد السيد ندا، وقام باختيار ابتهال (لا إله إلا الله) واضعاً لحناً له، فصنع بها تتر البداية والنهاية بصوت النقشبندي لبرنامج (شراع في بحر النور) الذي كان يعرض في كل حلقة ابتهالاً بصوت النقشبندي؛ من أشهرها (تلطفي يا ريح بالمدينة المنورة – نشيد الكون – القلب يا رب حامد – أيقظ الشوق مقلتي) وغيرها الكثير، بجانب بعض التلاوات القرآنية، والأذان الذي قيل إنه سجله قبل وفاته بيوم.

هذا بالإضافة إلى مجموعة من الابتهالات الدينية التي لحنها له مجموعة من أشهر الملحنين؛ منهم محمود الشريف، وبليغ حمدي، وأحمد صدقي، وحلمي أمين الذي قدم معه (سبحانك ربي سبحانك)، وأحمد فؤاد حسن الذي قدم معه (ابتهال)، وتعاونه مع الشيخ سيد مكاوي في (نور الأسماء الحسنى)، وكان الشريعي يقول إنه أول وآخر واحد يلحن لأحد بعد وفاته.

شهرة واسعة

تجاوزت شهرته مصر إلى الدول العربية، فسافر إلى حلب وحماة ودمشق لإحياء الليالي الدينية، كما زار أبوظبي والأردن وإيران واليمن وإندونيسيا والمغرب العربي، ودول الخليج ومعظم الدول الإفريقية والآسيوية.

وفاته وتكريمه

توفي النقشبندي إثر نوبة قلبية في 14 الرابع عشر من فبراير عام 1976.. كرمته الدولة مرتين بعد وفاته: أولاهما في عهد "السادات" عام 1979 بمنحه وسام الدولة من الدرجة الأولى، ثم في عهد "مبارك" خلال الاحتفال بليلة القدر عام 1989 بمنحه وسام الجمهورية من الدرجة الأولى.

ابتهال مولاي

للنقشبندي عدد كبير من الابتهالات، إلا أن ابتهال «مولاي» كان علامة فارقة، فقد سمعنا بعده صوت النقشبدي مع عدد من الملحنين، بعدما كان يؤمن بأن الإنشاد لا يجتمع مع الموسيقى التي قد تخرجه عن جو الخشوع، كما كان ل«مولاي» حكاية طريفة

يروي الإذاعي الراحل وجدي الحكيم، أنه في عام 1972، كان السادات يحتفل بخطبة إحدى بناته في القناطر الخيرية، وكان النقشبندي، وبليغ حمدي من المدعوين للحضور؛ فإذا بالسادات ينادى لبليغ ويقول له: «عاوز أسمعك مع النقشبندي»، وكلف بفتح استوديو الإذاعة لهما، وكان بليغ حمدي على عكس النقشبندي، شديد الحماسة والسعادة لأنه كان من أشد المعجبين بصوت النقشبندي، وقال بليغ للنقشبندي: «هعمل لك لحن يعيش لـ 100 سنة».

ويكمل الحكيم قائلاً: «بعدها تحدث معي النقشبندي وقال لي: (ماينفعش أنشد على ألحان بليغ الراقصة)؛ حيث كان النقشبندي قد تعود على الابتهال دون موسيقى، وكان في اعتقاده أن اللحن يفسد حالة الخشوع التي تصاحب الابتهال، وقال: (على آخر الزمن يا وجدي هاغني؟!) وطلب منى الاعتذار إلى بليغ.

لكني طلبت من النقشبندي أن يستمع إلى اللحن الذي أعده بليغ، واصطحبته إلى استوديو الإذاعة واتفقت معه على أن أتركه مع بليغ لمدة نصف ساعة ثم أعود، وأن تكون بيننا إشارة أعرف من خلالها إن كانت ألحان بليغ أعجبت النقشبندي أم لا.

وكانت الإشارة المتفق عليها، أن أدخل عليهما بعد نصف ساعة، فإذا وجدت النقشبندي خلع عمامته فإن هذا يعني أنه أعجب بألحان بليغ، وإن وجدته لا يزال يرتديها فيعني ذلك أنها لم تعجبه، وأتحجج بأن هناك عطلاً في الاستوديو لإنهاء اللقاء، ونفكر بعدها في كيفية الاعتذار لبليغ». ويقول وجدي الحكيم: «دخلت فإذا بالنقشبندي قد خلع العمامة والجبة والقفطان»، وقال لي: (يا وجدي بليغ ده جن)».

تعاونه مع بليغ حمدي

ابتهال «مولاي» كان بداية التعاون بين بليغ والنقشبندي، الذي أثمر عدة ابتهالات؛ منها «أشرق المعصوم»، و«أي سلوى وعزاء؟»، و«رباه يا من أناجي»، و«ربنا إنا جنودك»، و«ليلة القدر»، و«دار الأرقم»، و«إخوة الحق»، و«أيها الساهر»، و«ذكرى بدر»، و«كن لنا نعم المعين»، و«عليك سلام الله»، و«ما أعظم الذكرى»، و«يا ربنا»، و«يا ليلة في الدهر»، و«حمدا لك الله»، قدمت باسم مجموعة (أنغام الروح)، وجميعها من كلمات الشاعر عبد الفتاح مصطفى، ويذكر أن بليغ والنقشبندي رفضا تقاضي أي أجر عنها.

وفى اللقاء الأول الذي أثمر تلحين «مولاى»، لحن بليغ للنقشبندي مجموعة من الابتهالات ليكون حصيلة هذا اللقاء 6 ابتهالات أخرى، وكان بليغ هو من اختار كلمات هذه الابتهالات بالاتفاق مع الشاعر عبد الفتاح مصطفى

وبعيداً عن (أنغام الروح)، قدم النقشبندي مجموعة كبيرة من الابتهالات الشهيرة؛ منها «عيدوا عليا الوصال»، و«فايت على الورد»، و«رمضان أهلا»، و«أنت في عين قلبي»، و«أغيب وذو اللطائف لا يغيب»، و«النفس تشكو»، و«شمس الحقيقة»، و«أطلقوني من سياج الأسر حتى أتلاقى»، و«قادمون نحن»، و«الحب يا رب دربي»، و«حبيبي أنت أراك بكل الجمال»، و«غناء الزهر»، و«أيقظ الشوق مقلتي من رقاد».

ولكن تظل «مولاي» هي الأقرب إلى قلوب الملايين، ببساطتها النافذة وجماليتها المتفردة من ألحان وكلمات، واحساس وصوت النقشبندي القوي والعذب.

فلنستمع إلى إبداع وعبقرية ابتهال «مولاي» بصوت سيد المداحين الشيخ النقشبندي.