ما المقصود بغسيل أو تبييض الأموال؟

  • بواسطة: بابونج تاريخ النشر: الأحد، 24 نوفمبر 2019 آخر تحديث: الأربعاء، 15 سبتمبر 2021
ما المقصود بغسيل أو تبييض الأموال؟

يُعتقد أن مصطلح غسيل الأموال (Money Laundering) يعود أصلاً إلى فترة سيطرة المافيا الإيطالية في مدينة نيويورك، حيث كان أحد زعماء المافيا ذوي الشهرة -آل كابون (Al Capone)- يقوم بشراء سلاسل محلات الغسيل (Laundromats) لتمويه أرباحه من شبكات الدعارة والإتجار غير المشروع بالكحول كأرباح مشروعة لهذه المحلات في عشرينيات القرن الماضي.

نظراً للتأثير الكبير لغسيل الأموال على الاقتصادات العالمية وخصوصاً النامية منها فهذا المصطلح يستحق شرحاً مفصلاً يوضح طبيعته وأسبابه ويزيل اللبس المحيط به، وهذه هي الغاية من هذا المقال.

ما هو غسيل الأموال؟

يعرف غسيل الأموال (Money Laundering) بأنه النشاط المرتبط بتحويل الأموال "القذرة" (Dirty Money) وهي الأموال التي تم جنيها بشكل غير مشروع كالاختلاس أو السطو أو الإتجار بالمخدرات إلى أموال تبدو كأنها أتت من مصادر مشروعة؛ ويقوم أصحاب الأموال بهذه العملية عادة ليتمكنوا من استخدام هذه الأموال بشكل حر أو استثمارها دون إثارة الشكوك حول الأمر.

وعلى الرغم من كون غسيل الأموال جريمة من نوع "ياقة بيضاء"، وجرائم الياقة البيضاء أو (White Collar Crimes)؛ هي الجرائم ذات المحفز المالي والطبيعة غير العنيفة التي يقوم بها موظفوا الشركات أو الموظفون الحكوميون فهذه الجريمة تشكل الغطاء الرئيسي للجرائم العنيفة والحد منها سيحد بالضرورة من الجرائم المنظمة ونشاط العصابات.

آلية غسيل الأموال

يعتبر هذا النوع من الجرائم ذا تنظيم عالٍ جداً ودقة كبيرة، فالتعامل هنا يتضمن رجال أعمال ومصرفيين وخبراء اقتصاديين وحقوقيين نظراً لكميات الأموال الكبيرة التي يتم التعامل بها. وتقسم عملية غسيل الأموال عادة إلى 3 أقسام رئيسية:

الإيداع (Placement)

وهو الجزء الأخطر من العملية الكلية، يتضمن الإيداع إدخال الأموال المطلوب تبييضها إلى النظام المصرفي بطريقة أو بأخرى، قد يتم الإيداع عن طريق اختراع شركات وهمية أو بالتعاون مع مصرفيين فاسدين أو بتمويه الأموال كأرباح عمليات مقامرة ومراهنات أو باستخدام شركات واجهة (Shell Firms) وهي شركات أو مؤسسات اقتصادية تحت ملكية أو سلطة أشخاص فاسدين يقومون بتسجيل أرباحٍ إسمية أعلى من أرباحهم الواقعية بحيث تدخل "الأموال القذرة" النظام المصرفي كأنها أتت من عمل أو شركة شرعية تماماً.

أحد الأمثلة على إدخال الأموال الغير مشروعة تم فضحه في القضية التي قدمتها روسيا ضد بنك نيويورك عام 2007 حيث ساعد مسؤولوا بنك نيويورك ونائب رئيس أحد البنوك الروسية على إدخال أكثر من 22 بليون دولار أمريكي إلى النظام المصرفي بين عامي 1996 و1999، تم تسوية القضية لاحقاً مقابل دفع البنك تعويضات تقدر ب 7 بليون دولار أمريكي.

التغطية (Layering)

في هذه المرحلة تكون الأموال قد دخلت أصلاً إلى النظام المصرفي، وهنا يتم إعادة توجيهها من مكان لآخر عبر العديد من المؤسسات المالية والبنوك والشركات الاستثمارية بحيث يتم تغطية مصدر المال الأصلي وتصبح عملية تعقب المال أمراً شديد الصعوبة وشبه مستحيل، خصوصاً إذا تمت العملية عبر العديد من البلدان المتباعدة جغرافياً أو باستخدام بنوك ذات سياسات خصوصية صارمة؛ بحيث لا تبوح بمعلومات العملاء وعمليات التحويل خصوصاً البنوك السويسرية أو الواقعة في دول صغيرة ذات تشريعات فساد قليلة جداً مثل: جزر الكايمان والجزر العذراء وليختنشتاين (وهي دولة أوروبية صغيرة جداً بمساحة لا تتجاوز 160 كيلومتر مربع وتقع بين النمسا وسويسرا).

وتشارك الكثير من البنوك -حتى الكبرى منها- في عمليات التغطية وأحد أشهر القضايا هنا كانت ضد بنك (HSBC) الذي تم تغريمه حوالي 1.9 بليون دولار لمشاركته في عمليات تغطية لأموال ناتجة عن تجارة المخدرات عام 2012.

الدمج (Integration)

في هذه المرحلة تعود الأموال القذرة إلى أصحابها على شكل أموال مشروعة تحت مسميات عديدة مثل نواتج استثمار أو كمردود ناتج عن بيع مقتنيات ثمينة أو إرث أو سواه، كما يتم استخدام النظام المصرفي والشركات الوهمية مجدداً في هذه المرحلة لإضفاء الطابع الشرعي للأموال، بعد ذلك يتم دمج هذه الأموال مع أموال شرعية أخرى بحيث لا يمكن تمييز أي الأموال من مصادر مشروعة وأيها لا..

وعند وصول العملية إلى هذه المرحلة يصبح كشف غسيل الأموال شبه مستحيل إلا باستخدام مخبرين مزروعين مسبقاً في الجهات المنظمة لغسيل الأموال أو عن طريق الاستعانة بشهادة فاسدين مقبوض عليهم ضد أقرانهم (عن طريق إبرام صفقات يتم بموجبها تخفيف الحكم على المقبوض عليه مقابل مساعدته في إلقاء القبض على آخرين أشد خطراً وأعلى مرتبة منه).

طرق مبتكرة لغسيل الأموال

كون غسيل الأموال جريمة منظمة بشدة ويتم تنفيذها من قبل أشخاص خبراء بالمجال الاقتصادي والقانوني، فالطرق المبتكرة والجديدة دائمة الظهور.. الكثير من مبيضي الأموال يعتمدون على الطرق الغريبة وغير المتوقعة لتجنب الإيقاع بهم، ومن أهم هذه الأساليب:

السنافر (Smurfs)

ترمز كلمة السنافر هنا إلى أشخاص عاديين غير معروفين من الجهات الأمنية وغيرها بحيث تكون لهم حرية التصرف دون رقابة شديدة.. يستخدم "السنافر" لإيداع الأموال في البنوك دون أن يثيروا الشبهات، حيث يستعين من يريد تبييض أمواله بهم بحيث يقومون بإدخال كميات صغيرة من المال بفترات دورية متقاربة دون إثارة الشكوك ليتم لاحقاً نقل هذه الأموال عبر عدة حسابات و"تغطيتها" لتعود لاحقاً لصاحبها كأموال نظيفة تبدو أنها أتت من مصادر مشروعة.

من الحالات المشهورة قضية "لو جنشينج" (Lou Juncheng) وهو مواطن صيني بدأ العمل ك"سنفور" عام 2009 عندما كان يبلغ من العمر 19 عاماً فقط، حيث فتح حساباً بنكياً في بنك الصين (Bank of China) ليقوم خلال 3 سنوات بأكثر من 5,000 عملية إيداع و 3,500 عملية سحب إلكتروني ساهمت في تدوير أكثر من 1.7 بليون دولار أمريكي عبر حسابه؛ تم إلقاء القبض عليه بعد إثارة الشبهات حوله وحكم عليه بالسجن لعشر سنوات ونصف بتهمة غسيل الأموال.

الأقاليم الصينية ذات الحكم الذاتي

تشكل كل من هونغ كونغ ((Hong Kong وماكاو (Macau) أقاليم ذات إدارة خاصة تابعة لجمهورية الصين الشعبية.. من المعروف أن هونغ كونغ واحدة من أكبر مراكز الجذب المالي في العالم حيث تحتل بورصتها سادس أكبر سوق أوراق مالية في العالم، كما أن ماكاو (والتي لا تتعدى مساحتها 30 كيلومتر مربع) تشكل عاصمة المقامرة العالمية فهي تجني سنوياً سبع أضعاف ما تجنيه مدينة الكازينوهات الشهيرة في الولايات المتحدة الأمريكية - لاس فيغاس (Las Vegas).

يقوم مبيضو الأموال عادة باستخدام أشخاص يزودونهم بعملات رمزية خاصة بالكازينوهات (Casino Tokens) أولاً، بعد ذلك يقومون بالمقامرة بكميات أموال صغيرة نسبياً ليتمكنوا من تصريف العملات الرمزية إلى مال حقيقي لاحقاً.. بعد تصريف المال يتم إيداعه في أحد البنوك في هونغ كونغ ليتم تحويله عبر العديد من العمليات البنكية بين بنوك في بلدان متعددة بالتالي تغطيته، ومن ثم يمكن سحبه وتمويهه كمال مشروع عائد من أعمال قانونية.

الألعاب الإلكترونية على شبكة الإنترنت

يتم استخدام هذه الطريقة عادة من تجار المخدرات الذين يمارسون أعمالهم على الشبكة المظلمة (Dark Web) ويجمعون المال على شكل عملة افتراضية غالباً ما تكون (Bitcoin) ليقوموا بعدها بمبادلتها لقاء نقود افتراضية خاصة بالعاب الكترونية تلعب على الإنترنت مثل: (League of Legends) أو (World of Warcraft) ويقومون بتحويل الأموال الافتراضية عبر عدة حسابات خاصة باللعبة ليعقدوا عملية تتبعها بشكل كبير.. في المرحلة الأخيرة يتم سحب هذه الأموال كأموال حقيقية تبدو كأنها أرباح مشروعة من اللعبة.

دور الماس في غسيل الأموال

يستخدم الماس بشكل كبير لتهريب الأموال بالدرجة الأولى، فالسعر المرتفع الذي يتمتع به هذا الحجر الكريم يجعله مثالياً لتهريب كميات كبيرة من المال دون ملاحظتها.. إحدى أشهر الحالات التي تتضمن الماس تم كشفها من قبل موظف في البنك السويسري (UBS)، حيث اعترف بمساعدته للعديد من أصحاب الملايين والبلايين الأمريكيين على تهريب أموالهم إلى الولايات المتحدة مع تجنب دفع الضرائب عن طريق شراء ماس مقابلها وتهريبه ضمن علب معجون أسنان إلى داخل الولايات المتحدة، حيث يتم بيعه لاحقاً إلى تجار محليين يقومون بتزوير أوراق ثبوتية له ليبدو كأنه ماس شرعي تماماً تم استخراجه وصياغته عبر الطرق القانونية.

صفقات الشركات الكبرى

غالباً ما يعتمد مبيضو الأموال من المستويات العليا على الشركات لتبييض أموالهم متجنبين التعامل مع البنوك والكازينوهات والسنافر أيضاً، يتم ذلك عن طريق التعاون مع مسؤولين فاسدين في شركات كبرى عادة.


أشهر هذه الطرق استخداماً هي مناقصات الظرف المختوم، حيث تقوم الشركات الكبرى بالإعلان عن فرصة للتعاقد ليقدم المتعاقدون العروض الخاصة بهم دون أن يعلم أي منهم قيمة العروض الأخرى، يعتمد مبيضو الأموال على وضع قيم أعلى بكثير من القيم الحقيقية لسعر العقد ويقوم المسؤولون الفاسدون بقبول هذه العقود مقابل رشاوى كبيرة، بذلك يتمكن مبيضوا الأموال من تمويه المال كأنه ناتج عن تعاقدات وعمليات شراكة شرعية تماماً.

أكثر الدول تورطاً في غسيل الأموال

يعتبر غسيل الأموال مشكلة عالمية، فهو موجود تقريباً في كل بلدان العالم وتتم ممارسته بشكل مستمر وعابر للقارات، على الرغم من عدم إمكان معرفة أكثر الجنسيات ممارسة لغسيل الأموال؛ فبالإمكان التعرف على الدول التي تتم فيها عمليات غسيل الأموال بشكل كبير، فالتشريعات والقوانين المفروضة على التبادلات المالية تتباين بشكل كبير من مكان لآخر مما يجعل أماكن معينة أكثر جذباً للذين يقومون بغسيل الأموال نظراً لضعف التشريع أو الفساد الحكومي أو عدم توقيعها على اتفاقيات تسليم المجرمين للدول الأخرى.

وفقاً للدراسات الخاصة بمكتب مكافحة المخدرات وشؤون تطبيق القانون الأمريكي، فالدول التالية تعتبر أكثر الأماكن جذباً لغسيل الأموال: جزر الباهاما، جزر الكايمان، جمهورية الدومينيكان، كيان الاحتلال الإسرائيلي، لبنان، ليختنشتاين، بنما، الفلبين، روسيا، غرينادين، الجزر العذراء، سويسرا، سنغافورة.

حجم غسيل الأموال

يعد غسيل الأموال اليوم من أكبر النشاطات الإجرامية العالمية وأكثرها تأثيراً، وعلى الرغم من الجهود العالمية التي تهدف للحد منه مثل: تنظيم التعاملات البنكية والبرامج الخاصة بتعقب هذه التعاملات بشكل دقيق، فما تزال الأموال المغسولة تشكل بين 800 بليون و2 ترليون دولار أمريكي أي ما يكافئ بين 2 و 5% من الناتج المحلي الإجمالي للعالم بأكمله (وفقاً لإحصائيات مكتب المخدرات والجريمة التابع للأمم المتحدة).

ومعظم هذه الأموال تأتي على شكل استثمارات وهمية في البلدان الصغيرة مثل: الجزر العذراء البريطانية التي تلقت حوالي 92 بليون دولار أمريكي كاستثمارات فيها (أكثر من الهند والبرازيل معاً) عام 2013 وفق إحصاءات الأمم المتحدة مع الانتباه إلى أن معظم هذه الأموال لم تبقَ في الجزر إنما مرت فيها فقط كجزء من عملية تغطية غسيل الأموال.

كمية الأموال التي تمر في عمليات الغسل تجعل من غسيل الأموال إحدى أكبر المشاكل التي تواجه النظام المصرفي الحديث، فالمشكلة تفاقمت بشكل كبير جداً مع بدأ ونشوء البنوك الإلكترونية والتحويلات الفورية للأموال بالإضافة للخصوصية العالية التي تؤمنها هذه العمليات.

مكافحة غسيل الأموال

بداية من عام 1989 قامت مجوعة السبعة (تسمى G7 وهي مجموعة من الاقتصادات القوية تتضمن الولايات المتحدة وكندا وألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة وإيطاليا واليابان وتشكل معاً حوالي 64% من الناتج المحلي الإجمالي للعالم)؛ بتشكيل "فريق عمل الأحداث المالية" (Financial Action Task Force) في محاولة منها للتصدي لغسيل الأموال على المستوى العالمي.

تم بعد ذلك سن العديد من التشريعات التي تقيد عمليات التحويل المالي الكبيرة ووجوب إبلاغ السلطات دوماً عند وجودها، كما تم توسيع مهامها مطلع الألفية الثالثة لتتضمن مكافحة تمويل الإرهاب.

عربياً.. ما تزال الجهود محدودة في هذا المجال حيث لا توجد هيئات فعّالة للتصدي لهذه الجريمة باستثناء الإمارات العربية المتحدة التي قامت بسن تشريعات عديدة للحد من غسيل الأموال، الذي جعلها تصنف لفترة من الزمن كأحد المقاصد الكبرى لهذه العملية. بشكل عام، ترتبط مساعي الحد من تبييض الأموال في المنطقة العربية بجهود الحد من تمويل المنظمات الإرهابية بشكل كبير.

في النهاية... ما يزال تبييض الأموال مشكلة كبيرة للغاية في العالم ويتطلب جهوداً أكثر من المبذولة للحد منه خصوصاً في البلدان النامية (ومنها البلدان العربية) للحد من تسرب الأموال منها بطرق غير شرعية من جهة وللحد من خطر الإرهاب في المنطقة من جهة أخرى.

القيادي الآن على واتس آب! تابعونا لكل أخبار الأعمال والرياضة